بسم الله الرحمن الرحيم
أنا محمد أسعد أبو علي مرشد, من مواليد سنة 1941 , من قرية الدامون الجليلية المهجرة, التي هجـّرنا منها عام 1948. تقع قرية الدامون في قضاء عكا شمال فلسطين, جنوب شرق عكا, تبعد عن مدينة عكا 16 كم. تقع الدامون على تلة صغيرة مرتفعة عن سطح البحر بنحو 25 متر, مساحتها الهيكلية 111 دونما: تمتلك 484 دونم أرض مشجرة بالزيتون وتملك من الارض الخصبة للزراعة 20,357 دونماً تقع في سهل عكا بأرض فلسطين. يحد قرية الدامون وأراضيها من الشرق قرية كابول ومن الشمال أراضي ميعار والبروة والمكر ومن الغرب وادي النعامين وكيبوتس عين همفراتس وكفار مساريك ومن الجنوب الرويس وطمرة وارض شفاعمرو عين كردانية ( المسمّاة اليوم أفيك ) .
ولدت في هذه القرية الجليلية التي كان صيتها معروفاً لدى شعب فلسطين من شماله وحتى جنوبه, وذلك لعدة أسباب، أولاً: الموقع الجغرافي للدامون كان موقعاً استراتجياً حيث يربط شمال البلاد بجنوبها. ثانياً: اشتهرت الدامون بعين الماء (النبعة) حيث كان كل من يمرّ في هذه الطريق يقف ويشرب ويسقي دوابـّه من خيل وحمير وجمال وغيرها من الحيوانات الأخرى لأن في ذلك الزمان لم يكن مياه إلا القليل في طرق المسافرين.
تميزت الدامون بتركيبتها الديموغرافية، حيث عشنا بها نحن المسلمين وأخوتنا المسيحيون كالأخوة. وتشاطرنا الفرح والكره. وكان في القرية مسجد وكنيسة ومدرستان ابتدائيتان، وما أذكره جيداً أن جيراننا كانوا مسيحيين. وأذكر جيداً أن بيت أحد الاخوة المسيحيين، عبد الله يعقوب، كان حائط بيته يقسم بيت ابن عمتي محمد عبد المجيد زيداني وكان حسن الجوار مع الأخوة المسيحيين والاحترام أحسن ما يذكر به الانسان. دليل ذلك استمرار هذه العلاقة الطيبة حتى يومنا هذا. وبرز ذلك عندما حدث شجار بين الأخوة الدوامنة في قرية عبلين وبين عائلة الفرعوني في عبلين، فقمنا مع لجنة الاصلاح حتى تم الصلح.
كان في قرية الدامون عدة عائلات ونبدأ من شرقها إلى غربها، في الحارة الشرقية التي كانت تبدأ من جنب المقبرة الشرقية سكنت العائلات التالية: أبو علي مرشد، عثمان، حمادة، فرعتاوي، صوفي، حسان، مراد، حمد، بطل، زيداني، سالم وخوري. ثم عائلة البقاعي، اللوباني، العياشي والزيداني وهذه العائلة اكبرهم. قرب العين: بشكار، أبو شاهين، علو، حمدوني وأبو البصل.
كان أغلبية أهالي القرية من الفلاحين والمزارعين, واشتهرت القرية بزراعة القمح والشعير والذرة البيضاء والسمسم والبطيخ والشمّام. وعندنا في أرض الدامون موقع (تل كيسان ) وهناك يوجد نبع ماء, كان يُستغلّ في الصيف من كل سنة وكان يشغـّله أحد سكان القرية وكان ينشل الماء على الدولاب، أي على رجليه. عمل شاق مقابل أجر زهيد لكي يسقي الناس وكل "طرش" البلد الموجود في السهل. وعند موسم الحصاد كان يحضر لسهل الدامون من الجولان والجليل الأعلى كل من لديهم قطعان ماشية ويبقوا في سهل الدامون حتى أوائل الشتاء. وكان أيضاً هناك موقع اسمه "دعوق" غرب التل بحوالي 2كم، وهناك أيضاً كان يوجد بئر ماء يشرب منها الفلاحون والماشية.
وكان القسم الاخر من سكان الدامون يشتغلون في صنع الحصر التي كانت تصنع من قش السمار والحلفة والسعد والبربير وكان هذا القش ينمو على ضفاف نهر النعامين، وفي موسم الحصاد بأشهر الصيف كنـّا نقطع هذا القش ونيبسه حتى ينشف ونخزنه في البيوت ونبدأ بصنع الحصر .
وكنت قد بلغت من العمر سبع سنوات وكنت أرافق والدتي يومياً بالذهاب الى عين الماء (عين الدامون) لكي نملئ الجرة، موقع دارنا في الحارة الشرقية والعين في أول البلد من غرب، أخوالي وفي وسط البلد قرب الجامع، كنا نميـّل زيارة قصيرة شي ساعة من الزمن. وخالتي غرب البلد شمال العين نميـّل ونقعد زيارة قصيرة، ومن بعدها نذهب للعين ونملئ الجرّة وهذا ما كان يحدث يوميا مرة أو مرتين، وهذا مما ساعدني أذكر كل شيء ولم أنس حتى الاسماء والبيوت، كل بيت في قرية الدامون. وكنا أنا وأمي لما نغرّب نملـّي الجرة نيجي الطريق الشمالية في البلد وبعد ما نملـّي الجرّة نروّح الطريق الجنوبية. هذه الذكريات لم أنس منها شيء لأنها عزيزة وغالية وعشتها مع أخوتي وأخواتي وأقاربي وجيراني ومنهم من بقي في أرض الوطن الذي لا وطن لنا سواه ومنهم من هاجر الى لبنان.
وقعت النكبة التي نعيشها، وأول ما اذكر منها، الشيء الذي لن أنساه أبداً، أنه في صيف هذه السنة التي حلت بها النكبة كنا جالسين نسهر عند عمي مصطفى أبو علي، الرجال مجموعين يتحدثون عن الأحداث وانا ولد جالس أسمع، وإذ أحد الجالسين قال، اليوم سمعت خبر عن دير ياسين، قتل أطفال ونساء ومشايخ وبعج الحامل ورميهم في آبار ماء في القرية. عند
سماع الخبر، وقع خوف وهلع بين الجميع. ولماذا هذا الخوف والهلع؟ لأن قريتنا الدامون لم يكن فيها مقاومة. والكل يعرف، بتلك الايام لا يوجد مال والأحوال سيئة. بعد وقت قصير من سقوط حيفا وعكا وقرية البروة ضربوا علينا بالمدفعية من قرية البروة ونزحنا من القرية. نعم نزحنا من قرية الدامون إلى قرية كابول ومن ثم ميعار ومن ثم إلى سخنين. وهناك كانت المصيبة الأكبر. لم يكن بيت يأوينا. هذا ما أذكره. نزلنا في كرم زيتون شرق بركة سخنين اسمه المدقّ، هذا الكرم والكروم الأخرى امتلأت بالعائلات المشردة من قرانا الدامون وكابول وميعار وشعب. والمأساة الكبرى عندما قمنا صباح اليوم الذي سقطت فيه صفورية، وإذ الكروم تعجّ بآلاف الناس وقطعان الماشية، وكل هذا المنظر الرهيب مع
كثر الأمم والطـّرش والماشية من غنم وماعز وبقر، كل هذا يرد ليشرب من هذه البركة. وبعد يومين أو أكثر قام هجوم من قبل اليهود المحتلين لميعار، وكان هناك في سخنين بعض المقاومة والتصدي لهذا الهجوم، وعند سماع طخّ البارود وقع الخوف والهلع والفوضى بين الناس في كروم الزيتون وكل واحد يحمل أولاده وعياله على دابـّة، فرس أو حمار أوبقرة. وهذا ما حدث لي مع والدي كباقي الناس. كان معنا حصان أبيض حمـّل أبي عليه الفراش، أنا وأختي الصغيرة. وسحب الحصان وغادرنا سخنين نحو الشمال. وهذا بعد منتصف الليل، في أرض سهل شمال سخنين. وبعد أن طلع النهار تابعنا السفر شمالاً حتى الرامة ومنها إلى ساجور. وبقينا هناك تحت الزيتون - لانه في عين ماء - ما يزيد عن شهر ورجعنا من بعدها إلى سخنين وبقينا فيها حتى سقطت. ثم رجعنا وسكنـّا في كابول حتى يومنا هذا. وشهادة حق أقولها أني أشكر أهالي كابول الذين احتضنونا بالأيام السوداء تلك، التي لم يكن خلالها بيت نسكنه ولا أرض نقعد فيها فوجدناهم أهلا وأخوة لنا .
أبو كمال
آب 2009
كابول