بدأت السيدة سارة حديثها عن زياراتها المتكررة، مع نساء أخريات من المخيم، إلى قريتها صرعة بعد عام 1967، حيث أصبح ممكنًا بعد احتلال الضفة الغربية أن تتنقّل داخل دولة إسرائيل فقامت بزيارة قريتها المدمّرة عدة مرّات كان آخرها، كما تروي، عام 2000 عندما بدأت الانتفاضة الثانية وأصبح عبور الحاجز العسكري الإسرائيلي من قلنديا إلى صرعة أمرًا ممنوعًا بشكل شبه مطلق.
عمري كان 5 سنين لما طلعنا من البلد. أنا زرت صرعة بعد حرب الـ67. لقينا دار أبوي موجودة. كل الدور مهدّمة ما عدا دار أبوي. لأنها كانت دار ثلاث طوابق. تحت طابق مخازن، فوقها عقود وفوقهن علّيّة وعندها برندة. هذه العلية كانت للضيوف. أنا بنت المختار عبد الله أبو لطيفة. كان على الدار درج، من باب المخازن يطلع على العلّيّة. كل دور البلد مهدومة. حطوا فيها ديناميت وفجروها. بين دارنا وبين البلد كانت جرون. كانوا يحطّوا الزرع فيها. ويصير فيها أعراس وزفّات. اليوم عاملينها ساحة وحطّوا عليها تراب مثل الرماد. أنا ولدت في دار أبوي هذي. طلعت وعمري 5 سنين. حملتني أمّي على كتفها وصرت طول الطريق أعيّط. أبوي كان مختار البلد. دايمًا على الفرس وحامل البارودة على كتفه، ونازل طالع، على المخفر على الرعيان وعلى الحصادين. كل البلد كانت تحترمه. الناس كانت تحترم بعضها. مش مثل اليوم. أبوي كان متجوّز أربع نسوان. من أمي كان لي أختين وأخ. كان له بصرعة أربع نسوان. كلهن طلعن معاه بالـ 48. من زوجته الثانية كان له ولد اسمه يونس، كان ضابط بالبوليس الأردني، وبنتين رسمية ونظيرة، وكان لهم أوتيل كازار بوادي الجوز. الثالثة جابت ولدين، يوسف ومحمود والاثنين ماتوا شباب، والرابعة معها أربع أولاد، كلهم ماتوا في عمّان. كان لأبوي أرض كثير. الناس الكبار كانوا يقولوا انه أبوي اشترى كثير من أرض صرعة. الناس كانت فقيرة وعندها أرض. أبوي كان يجيب أربع عمّال من صوريف يحرثوا ويزرعوا. وأخوته عمّي علي وعمّي محمد، وخالي أحمد، هذول كلهم ونسوانهم بيشتغلوا يوميًّا بالأرض. الأرض كانت مشتركة لكل العيلة. حول دارنا كان دور لأخوتي بنوهن جديد ولكن تهجّرنا وما لحقوا يسكنوا فيهن. أخذوهن اليهود وهن مقصورات وجاهزات.
في إحدى المرّات، لما رحنا على صرعة، لقينا كل السهل اللي كنا نزرعه قمح مقطع ومقسّم قطعات قطعات. عند زيتون مردوم، قبال محطة القطار. لما وصلنا أجا علينا زلمة يهودي على قارّة [حنطور]. كنت أنا وأم صبحي. ناديت على الزلمة اللي على القارّة. وقف. سأل شو في يا ست؟ قلت له بدّي أسألك، ولكن بحياة امّك لا تخبّي، هذه الأرض كنّا نزرعها قمح، ليش مشيّكة قطع قطع؟ قال يا حاجة هذي الأرض مبيوعة. قلت الله لا يسهّل له طريق اللي باعها. اللي باعوها [الإسرائيليين] ما لهم فيها ولا شي. طيّب لما نرجع [نعود إلى صرعة] بنتفاهم. [وهي تضحك] وتركناه ورحنا.
إحدى المرّات لاقيت في صرعة يهودي من المغرب. سألته شو جابك هون؟ قال الحكومة جابتني. سألته وين ساكن؟ قال أنا ساكن في مُغر أبو عرقوب. هذي مغر قرب كفرورية. قلت له هذي دار خالي. سألني شو فيها علامة؟ قلت له عليها حوش وعلى بابها تينتين كبار. قال اليهودي والله بتحكي صحيح. آخ راحت البلاد وراحت أصحابها. شو نعمل؟
لما اليهود صاروا يضربوا شرّدونا. كانوا الحصّادين يحصدوا بهذيك الأيام. شردنا عند محطة القطار، هناك كان زيتون، كلّها زيتون، هذا اسمه واد عِلِّين تابع لدير أبان. حطّينا تحت الزيتون. صاروا أهل البلد يروحوا يحصدوا. البلد قبالنا وشايفينها. صارت الطيارات ترمي على الحصادين قيازين [براميل متفجرات] قدّ جرّة الغاز، ترمي على الحصّادين بالبلد. هجّجوهم. القمح طلايق والشعير سلايق. وكل شي تركوه بالجرون ورحلوا. اليهود هجّروهم واستلموا البلد. انتقلنا على بيت نتيف. قعدنا عند ناس اسمهم دار أبو شعيرة. قعدنا حوالي شهرين وبعدها انتقلنا إلى بيت أولا. قعدنا في منطقة خلة الجامع. منطقة أحراش. قعدنا فيها حوالي خمس أشهر تحت الأحراش. تقريبًا كل البلد كانت هناك. الناس لحقت بعضها. رحنا على حلحول فترة قصيرة ومنها على بيت ساحور وهناك استقرينا. أنا تجوّزت في بيت ساحور. قعدنا 14 سنة في بيت ساحور. يوم انقتل الملك عبد الله كنت ببيت ساحور وكنّا أنا والبنات نروح على بيت لحم نتفرّج، لأن الجنود الأردنيين كانوا يطلّعوا الناس ويجبروهم يروحوا يلطموا في ساحة المهد على الملك عبد الله. تجوزت ابن عمي وعمري 13 سنة، لما كان عمري 14 كان عندي ولد، ابني حاتم، هاي هو اليوم دكتور في بريطانيا هالحين.
لما طلعنا من بيت ساحور كان معي حاتم وكمان بنت. وجينا هون ع المخيم. أجانا واحد من قرايبنا وقال انتو قاعدين هون في بيت ساحور وبتدفعوا إيجار واحنا قاعدين بالمخيم والوكالة قايمة فينا. إرحلوا ع المخيم. جينا هون. هاذ يمكن قبل خمسين سنة. بعد الاحتلال رحت أنا وأم ياسين على صرعة. قالت إنها كانت مخبية ريالات بالدار وبدها تدوّر عليهن. كنّا نروح نجيب فقع وورق لسان. صار بدّها تروح على محل دارها. أنا خفت، قلت يمكن فيها قنبلة. بالآخر ما وصلنا دارها. عملنا لفّة حول البلد والمقبرة. حتى المقبرة رايحة، هدّوها. كل البلد هابطة والجامع والمقبرة كله مهدوم. فش إلا دار أبوي. لفّينا على كرم دار حسين ولقّطنا فُقع، وقالت لي شايفة هذيك السقيفة في طريق بير القنطرة؟ هذي كانت داري. كان عمّك محمود [زوجها] يتركني ويروح يسهر بالساحات بالبلد. كنت من الخوف أنام فوق الدار. دارها بعيدة عن البلد وتحتها كروم تين، وكانت تخاف. وبهذا المشوار مع هذي المرة شفت العين، عليها حجار ونبعة، بتنزل عليها درجة للنبعة، كانت النسوان تعبّي ميّ منها وتمشي مثل هون والرام [حوالي 2 كيلومتر]، هاي عين صرعة. غير هيك الناس كانت حافرة بيار جنب الدور. عند دار ابوي في بير. بعده موجود. أنا رحت وشفته. بس رادمينه. بعد كم سنة رجعت أزور البلد وما لقيت دار أبوي. كانوا هادّينها. عاملين محلها طريق وقعدة عالية من خشب. أنا طلعت عليها. وكان دارين ثلاث جنبها للمخازن والغنم والبقرات والتبن. لكن ما ممكن تشوف لها أثر. تحت سقف الخشب اللي عاملينه في هناك غرفة. هاي غرفة الناطور. ناطور يهودي يمني. كان ختيار وكل مرة نروح نتقاتل احنا وإياه. سألته شو بتعمل هون؟ قال أنا بقصقص الخنيزيرة من قاع الزيتون. كنا ست نسوان. نروح مع بعض ونتجمّع حواليه. آخر مرة، كان يمكن شهر 11، يمكن قبل 14 سنة، من يوم ما صار القتل والحواجز ما سمحوا لنا نمرق، سألني وين رفيقتك أم الأسنان الذهب، بيسأل عن أم فايق، قلت له ماتت. صاح كيف ماتت؟ قلت له اندهست. تأسف كثير. هاذ الناطور كنّا نشوفه كل سنة تقريبًا. مرّة ناداني وصار يقول تعالي شوفي شو العرب عملوا في غرفتي. سرقوا أغراض وقلبوا الطاولة. سرقوا التلفون والطورية. قلت له هم خلعوا وسرقوا باب لكن انتو سرقتوا البلاد. رحت ع البلد كثير مرات. كل مرة كنا الساعة سبعة الصبح نكون بالبلد.
المدرسة كانت بعيدة عن البلد وتابعة لصرعة وعرتوف وعسلين وإشوع ودير أبان. كانت غرفتين من حجر. هاي موجودة بالوعرة، بتقطع الأسفلت عند الموقف. على جنب الشارع المزفَّت اليوم اللي بيروح على تل أبيب وبيت سوسين وبيت جيز، في هناك ولي، بين صرعة وبين عسلين. كنّا نسميه الشيخ غريب. مرّة رحنا وكانت واحدة منّا جايبة قماش أخضر حتى تغطي فيه القبر، لما رحنا هناك لاقينا عنده ناطور يهودي وصاروا اليهود بانيين حواليه حجر وزارعين ورد. والولي اللي فوق اسمه الشيخ صامت. اليهود بعد ما هدّوا الدور أخذوا حتى القبور.
أول مرة رحت ع البلد خفت شويّ، لكن بعدين صرت أروحها بدون خوف. كنت أتعب بالمشوار لكن كنت انبسط إني زرت البلد. مع الحسرة إنهم أخذوها وحرمونا منها.
أنا أتمنى أرجع لصرعة. لو يسمحوا لي لأروح وأنصب خيمة جنب محل دارنا وأقعد فيها. حتى لو يظل اليهود هناك، احنا بدنا نفلح أرضنا ونعيش. كانت أيام العرب واليهود عايشين بسلام. والله بين عرتوف اليهودية وعرتوف العربية كان بس سلسلة تفصل بينهم. عاشوا جنب بعض.
-------------------
سارة عبد الله محمود أبو لطيفة
مكان الولادة: صرعة.
تاريخ الولادة: 5 سنوات قبل النكبة.
مكان المقابلة: مخيم قلنديا للاجئين.
تاريخ المقابلة: الجمعة 10.10.2014