يقطن الحاج عبد القادر محمد حاج يحيى، في الثمانينات من عمره، في مدينة الطيبة بالمثلث، بعد أن قضى الثلث الأول من عمره في قرية البصة أو كما تعرف باسم آخر 'بصة الفالق' حيث سميت بهذا الاسم نظرا لعين المياه التي كانت تجري فيها، وعند قوات الاستعمار البريطاني، شقت (فلقت) الجبل وصار نبع المياه فيها يصب في البحر.
يسترجع الحاج عبد القادر حاج يحيى، خلال لقاء أجراه معه 'عرب 48' ذكرته، ويروي ما حملته من مشاهد في عام النكبة 1948، وما عاشه عند انسحاب قوات الانتداب البريطاني من فلسطين، والهجمات الإرهابية التي نفذتها جماعات صهيونية في المدن والقرى العربية الفلسطينية، واقتراف الجرائم والمجازر وتشريد أهلها، ومصادرة الأرض وسمسرتها، ولم ينس لوعة التهجير ووجع النزوح وأنين الماضي الذي يلاحقه حتى هذا اليوم.
كان يعيش حتى ما قبل النكبة في قرية البصة، غرب مدينة الطيبة، بجانب القرية الكبيرة المهجرة، أم خالد، على أرض تابعة له. فصل نصف كيلو متر واحد البصة عن البحر.
يسترجع عبد القادر ذكرياته المريرة في تلك اللحظة عندما هُجروا من بيوتهم وأراضيهم نزوحاً، ليتركوا كل ما صنعوه هناك من ماضٍ وحاضر لمستقبل كانوا يحلمون به، 'كنا نذهب إلى المدرسة ركوبا على المواشي والعربة، ومن ثم نعود إلى القرية التي كانت تُزين باللون الأخضر، لون الزراعة، لون الخضار والفواكهة المتنوعة، كانت الزراعة المصدر الأساسي للناس، خاصة وأن القرية كانت تتمتع بأرض مروية لا تنتظر الشتاء من أجل الماء، إذ أن العين التي كانت تصب فيها، كانت تسقي الزرع لوحدها، وبذلك كانت الأرض مباركة وطيبة مثلها مثل كل أرض في هذه البسيطة'.
وأضاف أن 'عدد أهل القرية وضواحيها بلغ آنذاك نحو 500 نسمة من عرب البلاونة وعرب الدلاهمة وعرب الطويحات والتكلة والعمرور ومنصور والنصيرات واللوح، أهل هذه القرى هجّروا مع بدء فصول النكبة إلى مدينة الطيبة، وبعضهم إلى مخيم نور شمس في طولكرم ومخيم بلاطة في نابلس، وهجّر كذلك آخرون إلى الأردن، تربطنا معهم صلة قربى'.
وحول العصابات الصهيونية وجرائمها، قال حاج يحيى، لـ'عرب 48'، إن 'القوات الصهيونية هاجمت بلداتنا وهاجر جميع الناس، كان دوي إطلاق الرصاص يسمع بشكل متواصل ومخيف، استشهد وأصيب الكثير من الأهالي وهم يدافعون عن وطنهم وتعرض المهجّرون للقتل والاعتداءات الصهيونية. أذكر أنه في مدينة الطيبة استشهد ثلاثة أشخاص بإطلاق الرصاص عليهم وانفجار لغم بأحدهم وهم: الشهداء محمد بغل حاج يحيى، عفيف مصاروة وأحمد عبد اللطيف أبو أصبع، وصمد أبناء شعبنا رغم تخاذل الدول العربية'.
'كان معظم الناس جاهلين لما يدور من حولهم، يعيشون على البساطة، والمخاتير والمسؤولين في تلك الفترة لم يتمتعوا بوعي وحنكة سياسية، لكن الحياة كانت جميلة وريحها طيب، لم يكن هناك أحزاب سياسية وطنية فاعلة ترفع من وعي الناس وتثري معرفتهم وتحشد القوى وتحفز للدفاع عن أرض الوطن'، قال حاج يحيى، وأكد أنه 'عند اقتراب اليهود إلى القرى العربية في المثلث، لم تكن هنالك سلطة تدافع عن الناس، تشكلت لجان شعبية من أهالي القرى، وتناوبوا على الحراسة يوميا، خوفا من هجمات العصابات الصهيونية، وأذكر أننا أثمنا ثلاث نقاط حماية في محيط البلد، وكانت قلة قليلة من الناس تملك سلاحا، وخاصة بعض الأشخاص الذين كانوا في جيش الانتداب البريطاني وبقيت البندقيات معهم، لكنها لم تكف، وذهب بعض الشباب من القرية والقرى المجاورة يبحثون عن السلاح في ذلك اليوم، ثم رجعوا بعد فترة طويلة، كان هدفهم جلب السلاح عن طريق الضفة الغربية أو الأردن، لكنهم لم يستطيعوا، كانت الحراسة مشددة على هذه المناطق، واستطاعوا جلب بندقيتين ورشاشا من سوريا على الحدود مع فلسطين، وخاطروا بحياتهم ولم تغمض لهم عين، تمتعوا بالشجاعة، لم يهب الفلسطينيون الموت وكانوا يدافعون بأيديهم عن وطنهم فيما كان المحتل يفت ويقتل بأسلحة متطورة في حينه، ولو اعتمد الناس في حينه على الدول العربية لتحول جميع سكان فلسطين إلى لاجئين حتى اليوم'.
واستطرد حديثه بالقول، لإن 'أكثر شيء آلمني في تلك الفترة، أنني قد تعودت على العيش في مكان ما بعد دوام المدرسة، وفي لحظة ما فقدته، والكثير مثلي، غالبية الأراضي صودرت وسجلت أملاك غائبين، وبعضها سلب في صفقات أبرمها السماسرة، وبعضها أخذ عنوة، ومن لم يكن لديه شهادة ثبوتية (طابو) بأن الأرض هي بملكيته كانت تصادر. أراضي القرية كلها صودرت كسائر البلدات المهجرة والمدمرة بعد تهجير وتشريد الأهل وبعضها أقيمت على أنقاضها مستوطنات يهودية'.
'المواجهات والاشتباكات الأكبر كانت في مدينة الطيرة'، أكد قائلا إن 'عصابات الهاجاناه الصهيونية شنت هجوما شرسا نظرا لموقعها الإستراتيجي الجيد، لكن شهامة هذا الشعب وشجاعته وبسالته منعت ذلك بعد أن ارتقى العديد من الشهداء على أرض الطيرة، كذلك قتل الكثير من المحتلين، سقطت الطيرة ثلاث مرات واستطاع الثوار استرجاعها، ولولا هذه المقاومة والفزعة التي كانت من قبل أهل الطيبة وقلنسوة الذين ضحوا بأرواحهم لكان مصير الطيرة كمصير قرية قاقون ومسكة. عاش أهالي الطيرة في حينها لهيب نار المعركة بعد أن أخرج الأطفال والنساء وبقي فيها الثوار، لتتحول لساحة معركة مغلقة، فقد سقطت القذائف والقنابل على الطيرة وعلى استحكاماتها، ثم تبع ذلك هجوم من الجهة الجنوبية من 'رمات هكوفيش' وتقدموا حتى وصلوا مشارف الطيرة، وبفضل النجدات التي وصلت إلى الطيرة من الطيبة، قام قسم منها بحركة التفاف من الجهة الجنوبية الشرقية على المعتدين وقلبوا موازين المعركة لصالح المجاهدين، فتراجع المهاجمون وفروا إلى 'رمات هكوفيش' وسيطر الثوار على الطيرة'، تابع حاج يحيى وأكد أن 'ما استرجعه من تلك الذكريات بحلوها ومرها، يدفعني إلى الرغبة بأن يعود الناس إلى ما كانت عليه قلوبهم من طيبة قلب في تلك الايام، بالإضافة إلى حب الأرض والوطن وحب الغير والتضحية والفداء والعطاء، فقد كان أجدادنا على قلب رجل واحد، بعيدا عن جرائم القتل والسرقة والفساد والدمار التي ضربت مجتمعنا اليوم. نحن شعب هُجّر وظلم وقمع واحتل، يجب علينا أن نكون كلنا يدا واحدة، وما أسمعه اليوم يؤلمني جداً، كيف كنا في الماضي، نفرح لفرح الآخر ونحزن لحزنه، فقد تغيرت الحياة كلها، وآمل أن تعود كما كانت'.
----------
المصدر: موقع عرب 48