- أولاً، هل يمكن أن تحكي لي قليلاً عن نفسك؟
- أنا ابن عائلة شقلة. واحدة من العائلات الثلاث الكبرى في خربة اللوز: شقلة وأبو طبيخ وعبّاد. هذه كانت أكبر ثلاث عائلات. ترك والدي خربة اللوز مع جدي عام 1948، وسكنوا بالبداية في العيزرية. عام 1966 انتقلوا إلى قلندية. هناك تعلمت في مدرسة الأونرا – وكالة الغوث الدولية – وأنهيت دراستي في دار للمعلمين. بعد ذلك أكملت وحصلت على البكالوريوس والماجستير من الجامعة. اللقب الأول باللغة الإنجليزية من جامعة بيت لحم والثاني بالإدارة التربوية من جامعة بير زيت. الآن أنا أدرس في مدرسة تابعة لوزارة المعارف [الإسرائيلية] في شعفاط.
عندي سبعة أولاد. أربعة بنين وثلاث بنات. خمسة منهم أنهوا الدراسة الجامعية. اثنان لا يزالان صغيرين. طبعاً متزوج وأسكن في عين رافة منذ سنة 1992. ليس هناك الكثير ما أحكيه عن نفسي. في مجال التربية درّست في مدارس "أورط" وعملت عدة سنين في مؤسسة إسرائيلية فلسطينية اسمها "إبكري"، IPCRI (Israel – Palestine Center for Research and Information ). كنت مركّز منطقة القدس في المؤسسة.
- ماذا تعرف عما حدث عام 1948؟
- سنة 1948، مع إقامة دولة إسرائيل، جاء ناس وأقاموا الدولة على أراضي الفلسطينيين. طردوا الفلسطينيين. جاء ناس من خارج البلاد وأقاموا دولتهم في فلسطين. هذا ما أعرفه عما حدث.
- هل تعرف شيئاً عما حدث في هذه المنطقة؟ عما حدث في المكان الذي سكنت فيه عائلتك؟
- نعم. هم سكنوا هنا. كانوا ناساً بسطاء. فلاحين، عملوا بالزراعة. سكنوا في منطقة جبلية قليلاً ولذلك اشتغلوا بالفلاحة فقط، لم تكن هناك صناعة أو أي شيء آخر. عندما سمعوا عن أحداث المجازر التي حصلت، وعما كان في دير ياسين، هربوا. تركوا المنطقة. تركوا بهدف أن يرجعوا إلى القرية بعد فترة. أرادوا فقط أن يبتعدوا حتى لا يقتلوهم، وخططوا أن يعودوا بعد أسبوع أو أسبوعين. ولكن هذه الفترة طالت وطالت وطالت، حتى اليوم.
- هذا ما حكوا لك في العائلة؟
- نعم، أيضاً جدي، الذي توفي وعمره 100 سنة، حكى لي. لم يسمح جدي لأبي أن يبني بيتاً. كان يقول: " لا تبن بيتاً على أرض، لأننا في يوم من الأيام سنعود إلى بلدنا". فقد سكنّا في حينه في مخيم لاجئين. جدي لم يسمح لأبي أن يشتري أرضاً ليبني عليها، لم يسمح له أن يشتري قطعة أرض. لقد كان واثقاً أنه في يوم من الأيام سنعود للقرية. كان واثقاً.
- ويسكن والداك حتى اليوم في مخيم اللاجئين؟
- نعم. والداي وقسم من العائلة.
- هل حكوا لك عن الحياة في القرية؟ عمّا كان قبل 1948؟
- كل أفراد عائلتي كانوا فلاحين. هذا كان عملهم. كان لهم بالأساس كروم عنب. اعتادوا أن يشتغلوا كل يوم من ساعات الصباح حتى بعد الظهر. في الليل كان يتجمع كل الكبار والمسنين تحت شجرة الخروب ليحكوا القصص، كان الشاعر يحضر ليحكي القصص، مثل قصة أبو زيد، قصص من التراث. في صباح اليوم التالي قاموا للعمل وهكذا دواليك. كانت لهم حياة عادية سارت بشكل روتيني ثابت. اشتغلوا فقط بالأرض والزراعة. بعد ذلك، بعد 1967 غندما سنحت لهم الفرصة للقاء التجار من سوق "محنيه يهودا" كان كثير من الناس يعرفون الواحد الآخر ( من مجال التجارة بالمحاصيل الزراعية).
- ماذا تعرف أيضاً عن حياتهم؟
- كانت حياتهم صعبة. لم يكن عندهم أي وسيلة نقل، وكل أعمالهم تمّت بشكل يدوي، كان عندهم حمير استعانوا بها لنقل البضائع. كانت النساء تسير كل الطريق من القرية حتى سوق "محنيه يهودا" حاملات البضاعة على رؤوسهن. (مسافة 15 كلم). كانت حياتهم صعبة فعلاً. ولكنهم كانوا مبسوطين وراضين بنصيبهم لأنهم فلحوا أرضهم. اشتغلوا في أرضهم ولم يضايقهم أحد، لم يزعجهم أحد، لذلك كانت حياتهم جيدة. هذا كل ما حكوا لي. أنهم كانوا فلاحين وناس بسطاء. عاشوا حياة عادية بدون كل التعقيدات الموجودة اليوم. كان الناس فقراء، لم يكن لديهم مال أكثر مما ربحوه من بيع البضاعة، وما ربحوه استثمروه في الزراعة مرة أخرى. عاشوا، تزوجوا، بنو بيوتاً... لم يكن أكثر من اللازم .....
- هل حدّثوك كثيراً عن تلك الحياة؟
- نعم. هناك الكثير من القصص التي حكوها لي. حكوا لي عن مشاكل مختلفة كانت لهم، قضايا مختلفة. حكوا لي كيف كانوا يطبخون وكيف كانوا يستقبلون الضيوف، مثلاً عندما وصل شخص ما، ضيف من مكان بعيد عن البلد... حكوا عن أمور كهذه.
- وماذا حكوا لك عما حدث عام 1948؟
- حكوا أنه لم تكن عندهم أي فكرة مسبقة عما سيحدث. عاشوا حياة طيبة مع اليهود من حولهم. كان لهم أصدقاء يهود يعملون معهم. باعوا لهم واشتروا منهم. إذا احتاجوا شيئاً ذهبوا إلى القدس واشتروا من اليهود. الحياة كانت عادية بكل ما يتعلق بعلاقتهم باليهود. عاشوا بسلام. حتى جاء يهود من خارج البلاد وهم شوّشوا نسيج العلاقات التي كانت قائمة مع اليهود الشرقيين الذين كانوا في القدس. معهم كانت الحياة عادية جداً ولكن هذا تغيّر.عندما تركنا، تركنا في البداية إلى قرية قريبة منا، 5 كم شرق خربة اللوز، بعد ذلك تقدموا باتجاه بيت لحم ويقوا هناك. لكنهم كل الوقت آمنوا أنهم سيعودون إلى القرية. قسم منهم حاولوا العودة ولكن لم ينجحوا. كانت إشاعات في ذلك الوقت أن اليهود سيقتلون كل من يشكـّون به. كانت قصص وإشاعات كثيرة عن الناس الذين قتلوا في دير ياسين. عن الطريقة التي قتلوا بها. خاف الناس كثيراً. خافوا على حياتهم ولذلك هربوا. ظنوا أنهم سيعودون، ولكنهم لم يعودوا حتى الآن.
- هل حدّثت أولادك عن القرية؟
- أنا آخذهم إلى هناك. نذهب إلى هناك ونجلس هناك. نذهب بشكل دائم. نعتير ذلك المكان جذورنا. هذا قرية آباءنا وأجدادنا. جدتي وأبي وأمي، كلهم عاشوا هناك. نحن نذهب إلى هناك. وهذا أيضاً نوع من التنزه بالنسبة لنا. حتى نشم الهواء ونغير الأجواء ونتأمـّل في الطبيعة. الطبيعة هناك جميلة جداً. وأيضاً حتى نتذكـّر أنه كانت لنا هنا قرية.
- هل تحكي لهم عن الحرب؟
- إنهم يعرفون. هم يعرفون هذه الأمور. يسمعون القصص ويقرؤون في الكتب. يسمعون القصص من جدهم وجدتهم. نعم ، هم يعرفون.
- هل هذا مهم بنظرك؟
- طبعاً هذا مهم. على الإنسان أن يتذكر أن آباءه عاشوا في هذا المكان، أنه كانت هنا قرية. ليتذكر أن هناك شيئاً يربطه بهذا المكان ولا يدعه يترك البلاد. بنظري هذا مهم.
- لماذا هذا مهم بنظرك؟
- حتى يتذكروا أن جدهم وجدتهم عاشوا هنا وأن هذه قريتهم. ليعرفوا أن لهم أرضاً. لنا هناك أرض واسعة ولكننا لا نستطيع أن نصنع بها شيئاً. ربما في يوم من الأيام هم يعودون إلى هناك. ربما يطبقون حق العودة. ربما يعطوا تعويضات... فأنا أريد أن يعرفوا أن لهم جذوراً هنا. ليتذكروا أن لهم أرضاً، أن لهم قرية، مكان.
- ما تشعر أنت شخصياً اتجاه ما حدث عام 1948؟
- مؤخّراً، صرت أفكر كثيراً في هذا الموضوع بالنسبة للمستقبل. ماذا سيكون مصيرنا في المستقبل؟ ماذا سيحدث؟ كيف ستكون حياتنا في المستقبل؟ هل سنضطر للمرور في نفس التجربة؟ هل سنبقى هنا؟ هل سنترك؟ مصيرنا غير واضح. هذا هو الأمر الذي أفكر فيه أكثر من أي شيء. هل سنستمر بالعيش هنا أم سنترك المكان الذي نعيش فيه اليوم. أنا أتساءل عن مصيرنا. مستقبلنا غير واضح. الوضع السياسي الحالي غير واضح. كل مرة نرى فيها نقطة مضيئة، ونظن أن السلام آت، تتعقد الأمور ويفشل الأمر. هذا ئؤثر على حياتنا. هذا طبعاً مرتبط بالماضي والحاضر.
- هل تعتقد أن ما حدث في 1948 أثر عليك بشكل شخصي؟
- أنا أكن مولوداً في 1948. بالنسبة لي هذا تاريخ. لكن من الواضح أن التاريخ يؤثر على الإنسان. لهذا الأمر أثر نفسي واجتماعي، هذا يؤثر علينا. حتى أن التاريخ القديم. كذلك تاريخ ما قبل الإسلام له أثرعلينا. نحن غير منقطعين عن ذلك. نحن جزء من التاريخ. نحن نصنع التاريخ للأجيال القادمة. بالطبع أثـّر الماضي علينا.
- كيف أثـّر ذلك عليك بشكل شخصي؟
- ربما كنت سأعيش بوضع مختلف، كنت سأتلقى تربية وثقافة مختلفتين. الوضع الاقتصادي آنذاك لم يمكـّني من الحصول على تعليم آخر لذلك تعلمت في مدارس التعليم المجاني. حتى الدراسة في دار المعلمين كانت مجاناً، ربما لو كان الوضع مختلفاً لذهبت للجامعة في ذلك الوقت. لا أعرف كيف كانت ستتطور الحياة. ربما لما كنت سأحظى أن أكون مدرساً. ولكن التأثير علينا كعائلة كان سلبياُ. توزعنا في أنحاء العالم. نحن على سبيل المثال سبعة أخوة، كل واحد يعيش في مكان مختلف. أنا في عين رافة، أحد أخوتي يعيش في قلندية وآخر في رام الله. من الواضح أن هذه من نتائج النكبة. ربما لو بقينا في القرية لكنّا جميعا نعيش هناك وكنا قريبين الواحد من الآخر.
الأمر الأهم بالنسبة لعائلتي هو أنه منذ أن اضطروا لترك القرية لم يملكوا أرضاً بعد. تركوا أرضهم ولم تكن لهم بعد ذلك أرض. لذلك ركـّزوا على تربية وتعليم أولادهم. كان تفكيرهم أنه إذا فقدنا الأرض فلنهتمّ بتربية جيدة وتعليم الأولاد. صحيح أن التعليم كان مجاناً، ولكني أقصد أنهم صمموا أن نتوجه للدراسة وليس للعمل. صمموا أن نتعلّم كلنا. كانوا يقولون: " ليس لنا أرض، ليس لنا مصدر رزق، الشيء الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه هو العلم". رغم أنهم لم يكونوا متعلمين. كان من المهم بالنسبة لهم أن نتعلم. وفعلاً، كلـّنا، كل الأخوة توجهنا للدراسة، أقلنا 12 سنة تعليمية.
- هل هناك أشاء أخرى تريد أن تحكيها؟
- نعم، كما قلت الحياة في القرية كانت منظمة بمفهوم أنها كانت روتينية. كل الوقت نفس المنوال. عاش كلهم تقريباً حياة متشابهة. عند حدوث مناسبة مهمة مثل زواج او ولادة كان الجميع يجتمع تحت شجرة الخروب. وكان مكان آخر هو الساحة، مكان تجمّع الناس في الليل للقاء للسهر. أحياناً كانوا يجتمعون هناك بعد ساعات العمل. منهم من كان يحضر الشاي وآخر يحضر الخبز، وكانوا يجلسون ويحكون القصص. تبادلوا الحديث عما فعلوا في ذلك اليوم، أين ذهبوا، بماذا اشتغلوا...، كانوا يجلسون هناك حتى الساعة التاسعة ليلاً تقريباً، ثم يعود كل منهم إلى بيته وفي اليوم التالي يذهبون إلى عملهم ثم يعودون للتجمع والهر وهكذا فعلوا كل يوم.
هناك قصة سمعتها من والدي تتعلق بأحداث 1948، كان شخص اسمه جابر وكان أحد ضباط القرية. كانت له علاقة طيبة مع أهل أبو غوش الذين كانت لهم جيدة مع اليهود. طلبوا منه أن يضع إشارة على بيته وبيوت أقاربه حتى يخبروا اليهود ألا يصيبوا هذه البيوت بأذى. تقول القصة أن البيوت التي كانت عليها إشارات كانت البيوت الأولى التي تضررت من فبل اليهود عندما دخلوا القرية. جابر هذا، كان يجمع بعض الأشخاص وكانوا ينزلون إلى باب الواد ويهاجمون سيارات وقوافل البريطانيين التي كانت تمر من هناك. كانوا يستطيعون أحياناً السيطرة على سيارة واحدة فتهرب باقي السيارات، فكانوا يأخذون حمولة السيارة من غذاء ومعدات وغيرها. فقد كانوا فقراء ولم يكن ل لديهم أي شيء.
عندما تركوا القرية كان الموسم صيفاً. وكانوا قد زرعوا خضاراً. كانوا يتسللون ليصلوا إلى أرضهم وليقطفوا محصولهم.
-------------
مقابلة مع غازي اللوزي (ابن عبد الفتاح حسن ومدللة عطا الله)
أجريت المقابلة بمنزله في عين رافة
موعد المقابلة: آب 2007
أجرت المقابلة: إيلانة قتسبمان