قبل الثمانية وأربعين كانت هذه المدينة عامرة بشكل كبير، كانت عاصمة الجليل، كانوا يزوروها من كل قرى الجليل مثل المزرعة والغابسيّه والكويكات وغيرها، ما بقي أي شي من هاي القرى غير المزرعة والباقي كله مدمّر. كانوا فلاحين هاي القرى يجيبوا الخضار والفواكه لعكا؛ كانوا يجيبو الحبوب على الجمال والبغال والحمير لعكا، كان دولاب التجارة شغّال بشكل رائع؛ من الناحية الثقافية كان في عدد كبير من النوادي وأهمهم نادي الكشّاف الإسلامي والنادي الأرثوذكسي وكان في هناك رابطة اسمها "رابطة المثقّفين"، الرابطة ضمّت النخب المثقفة من البلد، وكانوا يعرضوا مهرجانات كثيرة ويصدروا مجلات - كان معروف عن غسّان كنفاني - كانت الحياة منتعشة جدا من كل النواحي، ما كان في يهود بالبلد على الإطلاق، قبل النكبة ما كان في ولا يهودي، أنا وعائلتي سكنا بالمنشية وفي بداية المناوشات بالثمانية وأربعين نزلنا وسكنّا بعكا، والدي كان ينام بالمنشية وباقي العيله كلها كنا ننام بعكا، بعدين ترك أبوي القرية، أجينا على عكا مع بعض العائلات بس الاكثريّه الساحقة من سكّان المنشية رحلوا على المكر، وهيك بفّينا تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد ما سقطت عكا.
في عكا اجتمع فيها لمّا اشتدت الأحداث عدد كبير من شبّان القرى والمدن المجاورة، من حيفا، مجد الكروم، جديدة والمزرعة والغابسيّه، أجا على عكا واحد أسمه أبو محمود، هذا كان قائد من قوّاد الثورة الفلسطينية، وجاب معه عدد من الجنود المتطوّعين ولا حدا منهن كان متدرّب على السلاح أو كان بشي جيش، هدول الجنود توزعوا بالسجن وفي السجن طلبوا من كل من يحمل سلاح ييجي على السجن؛ أنا بوقتها كان عمري أربعة عشر سنه وكنت الوسط بين إخوتي واللي أكبر منّي كانوا متزوجين، فحملت الباروده ورحت على السجن وهناك وزّعونا لمجموعات صغيره، أنا بعتوني مع مجموعة أربعه أو خمس شباب على سور البلدية الشرقي وطبعا في فرقه تاني خلفنا بشي 200 متر، وين معمل بلاط الخوري وين محطّة البنزين السوري اليوم، وكان فوق السور الشرقي اللي كنا فيه أسلاك شوك، في صباح 15 /5/1948 بدأ ييجي علينا وابل من الرصاص من وراء سور الكنيسة وين ساكن سالم الأطرش وهي بعدها قائمه لحد اليوم، كان اليهود داخلين بقلب جنينه الكنيسة بالمقبرة وقاعدين يطخّوا علينا إحنا بالذات، الباروده اللي كانت معي ما بتسوا بصله، فش ولا رصاصه طلعت منّي، وجماعتي كانوا يطخّوا ويردّوا عليهن، أجا المسئول هذا اللي من جماعة أبو محمود وقال لي أنت إطلع على هاي الدار، فطلعت ولقيت هناك اثنين واحد من المنشية واسمه محمّد أبو عروب والثاني من جديدة بقولوله جدعون وضفه. جدعون كان معه رشّاش ومحمد معه باروده وهاي الباروده أخدها لمّا تسلّل- قبل ليلتين بعد ما احتل اليهود تل نابليون - بين زرع القمح والشعير حتى وصل للناحية الشرقية للتل وهناك كان في خيمة اللي كان اليهود حاطّين فيها أكل وسلاح، فسحب باروده وضلوا راجع، محمد أبو عروب وجدعون كانوا على كرسي الدرج اللي بوصّل للسطح وكان هناك شبّاكين صغار عشان يدخلوا نور للدرج فاستلم كل واحد شبّاك حتى يطخ فيه، كان مع جدعون شوال مليان رصاص، السلاح اللي معه كان اوتوماتي، قال لي أنت بس عبّيلي رصاص بالسلاح وكان لمّا يرش الرصاص ينزل على راسي. اليهود كانوا يفتشوا وين في سلاح اوتومات لأنه هذا اللي بخوّفهن أكثر من الباروده العادية، كان الجيش اليهودي مدرّب منيح فكانوا يضربوا علينا رصاص مضيئ من قلب فتحة صغيره. بعد فتره أجا المسؤول وقال لنا انسحبوا بسرعة لأنه اليهود قرّبوا يوصلوا، فانسحبنا، بس حتى نطلع لدار تاني كان لازم نطلع على الشارع والشارع خطر، بس هذا جدعون أنا ما شفت أجرأ منه على الإطلاق، قال لنا:" أنت ومحمود إطلعو وأنا بحميكو لما تقطعوا الشارع، فطلع ووقف بنص الشارع حامل شوال بأيد وييطخ بالأيد الثانية، وقطعنا أنا وزميلي للدار الثانية وهيك لحتى وصلنا للشارع وين المشبير (המשביר)، هناك انتبهت أنه أنا تصاوبت برصاصه والدم عم ينزل، فتركتهم وكمّلت امشي وطلعت على السور فوق وأنا مرعوب، وكان في هناك مجموعة شباب، كان جدعون وواحد من البروة اسمه صالح دوخي وواحد من نحف، وكانوا يطلقوا النار باتجاه اليهود اللي تغلغلوا وفاتوا بجنينه البلدية، بتذكر كان في شخص ثاني من المنشية وهو أصلا من مجد الكروم من دار منّاع، اسمه أحمد شكري منّاع، كان يخدم بالجيش الأردني وأجا وسكن عنّا في المنشية، وكان متدرّب على السلاح ومعاه مدفع، اليهود قتلوه بدم بارد ورموه من فوق البرج.
لما أحتل اليهود تل نابليون، تشكّلت ما يشبه لجنه في البلد وكان فيها قاضي أسمه صالح حكيم وواحد اسمه أحمد عبده وأحمد إدلبي وأحمد عدّولي، حاولوا يفاوضوا الانكليز على أساس إنهن يطلعوا اليهود من تل نابليون لأنهم وقفوا على النقطة العالية من التل وركّبوا رشاش يطل على كل شارع صفد، من عند مفرق المكر لمركز البوليس بعكا للشط، اليهود كانوا عم يشتغلوا على مخطّط، كانوا يضربوا بكل الاتجاهات إلا بإتجاه الشط، وصارت الناس تطلع من البلد بإتجاه الشط.
المقاومة بعكا ما كانت متدربة أبدا، كانت عشوائية جدًا، حتى كانوا يضربوا بعضهم بالخطأ، الواحد يصيب جاره أو صديقه، بس المقاومة استمرت بغير عكا كمان.
ب 15\5\1948 سقطت عكّا، يعني بعد حيفا، وتم استقبال اللاجئين من حيفا وكان الوضع هون فوضوي، ولا حدا عارف إيش بدّو يصير أو إيش العمل، الانجليز همّ اللي جهّزوا الزحافة وهاي المراكب اللي بتجيب الناس؛ الانجليز نقلوا الناس من حيفا لعكّا ونزلوهم بالميناء، وكانوا مش عارفين كيف بدهم يهربوا من الجحيم اللي كان بحيفا، إضافة لذلك سكان عكا الأصليين الميسورين تركوا البلد وسافروا على لبنان وما ضل في مصاري، وبقي بالبلد الفقراء واللاجئين اللي من حيفا، بس هدول اللي إجو من حيفا مش بس سكان حيفا الأصليين، كانوا من قرى ثانية اللي اليهود احتلتها وهربوا وإجو على حيفا ونقلوهم الانجليز بالزحّافه على عكّا؛ يعني عكّا عبارة عن خليط من كل البلدان، والعائلات اللي أصلهم من عكا عددهم تقريبا 14-15 عيلة.
احتلال اليهود لعكا بالنسبة لعائلتي ما كان مشكلة لأنه في كان قريب إلنا اسمه أحمد رعد ساعدنا عشان نلاقي بيت، ولمّا احتلوا المدينة سكنّا، كنا ثلاث أخوات وأربع إخوة وأهلي؛ كنّا عيله كبيرة بوقتها قالوا إنه اللي معه سلاح لازم يسلمه، بعدها قالوا كل اللي من فوق ال 18 سنه لازم يروح على ساحة المشنقة، وإذا منفتّش البيوت ومن لاقي واحد عمره فوق ال 18 سنه، بتكون حياته بخطر؛ أول واحد منّا راح كان أخوي الكبير، أخد الباروده وراح ومن يومها ما عرفنا وينه بعدين رحنا أنا وأخوي الثاني اللي أكبر منّي على ساحة المشنقة، أخوي الصغير ما كان بالحساب، هناك دخلونا على غرفة عتمه وطبعا لا أعطونا أكل ولا إشي من الصبح، الغرفة بابها حديد مسكّر بجنزير، حطّوا تقريبا عشرين أو ثلاثين واحد بالغرفة، حوالي الساعة واحده بالليل جبولنا سطل عشان نبوّل فيه، الساعة تنتين بالليل فتحوا الباب ورموا إشي بالداخل وسكّروا الباب، قرّبت عليه وكنت خايف كتير، قرّبت عليه وأنا مش عارف إذا هذا إنسان أو شوال، لأنه الدنيا ليل وعتمه، بس بعدين عرفت إنه بني آدم لأنه كان يئن، شوي شوي لمّا بدأ النهار يطلع، اكتشفت انه هذا الشاب كان زميلي بالمقاومة، كانوا مطبشينو ومكسرينو، لأنه في حدا فسد عليه إنه سرق باروده .
بالسجن اللي كانوا يعرفوه انه من عكا كانوا يطلعوه من السجن، أنا عرّفوني إنه من عكّا فطلّعوني، بس اخوي ما عرّفوه انه من عكّا وخلوه بالسجن، أجوا شباب عشان يساعدوني انه نهرّب اخوي، واحد منهم اسمه سليم الشاويش وواحد من دار دلال وكانت في نارسي (ممرضة) أسمها كريس مَس، قالولي إنه هاي ممرضة كويسه وممكن تساعد فرحتلها، سألتني وين ساكنين وقالت أنا بطلّع أخوك وبجبلك إيّاه على البيت، كريس مس هي أم زوجة عرفات، يعني أمها لسُها، جابت أخوي بحجّة انه عنده مرض معدي وممنوع يبقى، وصل على البيت وضل نايم بالفراش يعني متمارض، ولمّا كان الجيش ييجي يفتّش كان في حدنا بيت اللي ساكنين فيها امرأتين كثير مناح، قالت واحده منهن لأبوي خليه عندي أنا بمنع أي جندي يفوت عندي، بعدها حملنا حالنا في يوم من الصبح وتسللنا أنا وأبوي من عكا جنب السور، مشينا ومشينا حتى وصلنا لوين الأثيوبيين اليوم، ومن هناك قطعنا للشرق، قطعنا الشارع الأسفل اللي بوصل لنهريا، قطعنا زيتون نهريا ووصلنا لزيتون كفرياسيف وضلّينا هناك وبعد أسبوع أو أسبوعين أجو نسوان إخوتي وأختي الكبيرة، وضل بالبيت أمي وأبوي وأحمد أخوي وأختي الصغيرة، سكنا شوي بكفرياسيف، شي شهر زمان، لاقينا تبّان (اللي بحطّو فيه التِبن) وسكنا فيه، مليت البلد ناس وبطّل في وساع للاجئين، سكنا بالتبان وبتذكر إنه كنّا ننام على السطح، وبعدين قرّبوا اليهود للشمال أكثر واحتلوا عمقا والقرى اللي قريبة على كفرياسيف، بيركا سكنّا حوالي أربع لخمس أشهر في غرفه لا مقصورة ولا مبلّطه وأرضها تراب وحاميه. أبوي أيامها كان يشتغل بالبستان هادا اللي تابع للحكومة، أجا يفتّش عليه واحد يهودي اللي كان مسئول عن البستان وترجّاه إنه يرجع يشتغل لأنّه الشجر صار يموت، اليهودي جاب لأبوي تصريح عشان يرجع على عكا بس أبوي قاله انه بدّو تصريح لكل العائلة، فبعتلنا تصريح وهيك رجعنا لعكا.
كان في جار لأبوي بعكا وكنّا بعدنا إحنا ساكنين بيركا، كان عنده ولدين وزوجته متوفيه، وكانوا يشتغلوا بالميناء، هربوا على لبنان ووصلوا على طرابلس بس هو ضل بعكا، هذا الجار سأل أبوي إذا بقدر حدا من أولادك يأخذ المصاري ويروح على لبنان يعطيهم لأولاده، فقلّي أبوي وتحمّست ورحت أنا وصديق اللي كنّا أنا وإيّاه ساكنين بيركا، ورحنا مشي على لبنان، بالأول رحنا على ترشيحا، كانت بعدها ما سقطت، كان في هناك ضابط عراقي اسمه المهدي باشا، كان حاكم عسكري بالجيش العراقي، فرحنا وأخدنا تصريح من المهدي باشا وركبنا بسيارة من ترشيحا لأقرب بلد اللي بقولولها رميش، وعند مفرق سُحماتا كان ساكنين هناك بكل المنطقة جيش الإنقاذ، إجا جندي وطلّعنا من السيارة وسأل زميلي إذا معنا تصريح، أعطيناه التصريح، فمسكه بالمقلوب، وقال أنتو الاثنين يهود وأنا بعرفكم، أنت يهودي من طبريا وأنت من صفد وبتحكوا عربي منيح ..فقلنا انزلوا من السيارة وطال الباروده بدّو يطخنا، اللي قاعدين تحت الزيتونة كانوا مجموعه من جيش الإنقاذ، أجا واحد وسأل شو القصة ؟ فقال له هدول جواسيس، فسأله إذا معنا تصاريح، شافها وتطلّع عليها وقلنا بتقدروا تتسهّلوا، كمّلنا لرْميش ومن رْميش أخدنا سيارة ثانيه لبيروت ونمنا ليله أو ليلتين وكمّلنا على طرابلس وين في ميناء، وهناك في برّاكيّات صفيح أبيض، دقيت على الباب وطلعت امرأة محجبة، فقلتلها بدّي فلان، قالتلي مش هون بس راجع كمان شوي، فقعدنا نستنّا على شط البحر وإللا هو جاي، سلّمنا عليه وأعطيناه الأمانة، ونمنا بطرابلس ليله.
بعد شهر ونص شهرين من الاحتلال إجا يهود وسكنوا بعكا الجديدة وحتى بعكا القديمة الي بيوتها كانت فارغة، وبدأت طبعا أفواج المهاجرين اليهود تصل بالآلاف وعشرات الآلاف، وبآخر سنوات الخمسين لمّا بدأوا يبنوا "العَبروت" هذا اللي جنب تل نابليون صاروا يطلعوا اليهود ويسكنوهم هناك وبعدين بنوا الشيوكونات، لدرجه إنه بعكا القديمة طلعوا اليهود وبطّل في حدا وتمركزوا بالشيوكونات وبعكا الجديدة.
بعد الاحتلال، بسنوات الخمسين، ما كان في ولا أي حركه ثقافيّه لأنّه بعد الاحتلال ما كان في أي إنسجام بين الناس على الإطلاق، الناس كانت من عدّة بلاد مختلفة.
أمّا الحياة فكانت صعبه جدا كان الدخول والخروج بتصريح، واللي ما معه تصريح ما بقدر يروح محل، ما كان في شغل للناس، في مرحله من المراحل كانوا يوزعوا مؤن من منظّمة اللاجئين، ما في شغل واليهود نهبوا كل ما في البلد من عفش وأثاث ودكاكين وكله، وبعدين صارت تنشأ حركة دكاكين الخضرة اللي سمحوا للفلاحين أنهم يفتحوها. صاروا يجيبوا خضار من البلد لحتى الناس تعيش، فتركّزت الدكاكين كلها بالجزء الأخير بالسوق، المدارس كانت متعطّله وبعدين فتحوها، كانت الحياة صعبه جدًا.
محمود علي محمود أبو شنب
01/01/1970
عكا