س: حدّثينا قليلا عن نفسك. أين ولدتِ ومنذ متى جئتِ إلى البلاد؟
ج: ولدتُ في تشيلي لعائلة نشيطة في حزب اليسار. لقد كان والدي من بين المفقودين أيّام حكم الطّاغية بينوشي وقد تمّ العثور على بقايا جثمانه قبل عدّة سنوات. بعد سنة من حدوث الإنقلاب العسكريّ وصعود النّظام الدّكتاتوريّ إلى الحكم، قدِم الجيش إلى بيتي وفورا هربت واختبأت في منازل عدّة إلى حين حصولي على اللّجوء السّياسيّ في سفارة كولومبيا. من هناك طلبت اللّجوء السّياسيّ في بريطانيا أو إسرائيل، ولأنّني تلقّيت ردّا إيجابيّا من إسرائيل فقد هاجرت إلى إسرائيل ولم انتظر. عمليّا هربت من تشيلي إلى إسرائيل وفضّلت عدم انتظار ردّ الإنجليز. هنا في البلاد عاش أخي وأصدقاء الطّفولة من حركة "هشومير هتسعير" في تشيلي. وصلتُ إلى البلاد، إلى مجيدّو، عام 1974. لم أعرف تقريبا أيّ شيء عن الكيبوتس أو عن إسرائيل. إنضمّت أمّي إليّ وهربَت من تشيلي بعد شهر من وصولي إلى إسرائيل.
س: ماذا عرفتِ عن الصّراع الإسرائيليّ- الفلسطينيّ أو عن قرية اللّجون؟
ج: لم أعرف شيئًا عن اللّجون ولكن سمعت الكثير عن الصّراع. حدث لي حادث غريب جعلني أدرك ما هي الحقيقة الواقع هنا. في فترة دراسة اللّغة العبريّة في الأولبان في كيبوتس "تسورعا" كنت أسافر كثيرًا إلى القدس وقد سُحِرت بالمدينة كثيرًا. في أحد الأيّام تجوّلت مع أمّي في سوق البلدة القديمة وسألني أحدهم عن القلادة الذي كنت أتقلّدها. بدأنا الحديث وفوجئت بأنّه يعرف الكثير عن تشيلي، وقد اخبرني بأنّه يدرّس العبريّة في الجامعة العبريّة، تجولنا في السّوق معه ورأيت أنّه يعرف الكثير من البائعين وقد تحدّث معهم العربيّة وخفت قليلاً. أردت أن اسأله إن كان عربيّا، لكنّني خجلت. في آخر الامر سألته: هل هو من مواليد البلاد؟ أجابني " أبي وُلِد هنا، وأيضا جدّي وجدّ جدّي، لقد وُلدت هنا وعائلتي تعيش في القدس منذ 300 سنة وأنا فلسطينيّ". كانت تلك تجربة شديدة جدّا عليّ وليست سهلة. سألت نفسي هل كنت سأنقذ هذا الفلسطينيّ وأخبّئه في بيتي مثلما خبّأني أناس في بيوتهم في تشيلي؟ جوابي بالنّفي كان واضحًا، لأنّنا موجودون في صراع معهم.
س: متى وكيف تعرّفتِ على قرية اللّجون؟
ج: عندما جئت إلى كيبوتس مجيدّو كانت قرية اللّجون شفّافة تمامًا، كأنّها لم تكن موجودة. كان هذا غريبا، لأنّه كانت ولا تزال هناك مبانٍ في القرية. كان هناك بيت جميل لأحد شيوخ القرية ولم أسأل نفسي عنه، أُطلق عليه اسم "البيت العربيّ"، لكن لم يتحدّث أحد عن أصله. وأقصى ما قالوه "الشّيخ باع كلّ الأراضي". أقيم الكيبوتس عام 1949 في الوقت الذي لم يكن في المكان سكّان من قرية اللّجون. النّشاط في "حركة النّساء بالسّواد" جعلني أعترف بقرية اللّجون. هذا النّشاط كان اعتصاما أسبوعيّا لمدّة ساعة "لنساء بالسّواد" في أحد المناطق في البلاد، وهي حركة تشارك لنساء يهوديّات وفلسطينيّات، تحادثنا فيما بيننا وربّما ذلك زاد من وعيي.
س: متى التقيت أول مرّة بامرأة مهجّرة من قرية اللّجون؟
ج: في نهاية سنوات الثّمانينات وذلك في أحد مؤتمرات "نساء وسلام"، حيث التقيت بامرأة من مخيّم اللاّجئين في جنين. حكت أنّها من اللّجون وأنا قلت أنّني من مجيدّو. صمتتُ تمامًا. لم أستطع أن أنبسّ ببنت شفة. أقول ذلك الآن وأنا أشعر بأنّني سأبكي.
س: لماذا صمتتِ؟
ج: صمتتُ لأنّني لم أعرف ماذا أقول لها. لم يكن لديّ ما أقوله. أنا أعيش في بيتها وهي لاجئة. لم أعرف كيف أواجه هذه الحقيقة. في مرّات كثيرة في إسرائيل يغرسون في أذهاننا المقولة: "إمّا نحن أو هم". ولكن نحن الآن معًا في المؤتمر. أعتقد أنّ الشّيء الوحيد الذي قلته أنّني آسفة جدّا.
س: متى سمعتِ لأوّل مرّة حكايات عن القرية؟
ج: مرّة، في بداية سنوات التّسعينات، جاء إليّ لكيبوتس مجيدّو فلسطينيّ من أمّ الفحم مع صديقي الفلسطينيّ. كانا يريدان تأليف كتاب عن قرية اللّجون، تأريخ شفويّ عن القرية. ذهبنا لزيارة القرية وهناك حدّثني عن البيوت وعمّا حدث. كان هناك بيت جميل جدّا ولكنّه مليء بالأشواك نتيجة الإهمال. في الماضي استُعمِل البيت كمغسلة للكيبوتس. أخبرني الرّجل الفلسطينيّ أنّ هذا البيت كان عيادة، وأنّ القرية كانت كبيرة ومهمّة، وقد أراد الإنجليز تحويلها إلى مركز مهمّ. لقد احتجتُ بعد ذلك إلى المزيد من الوقت لكي أدرك أنّه حيث توجد آثار وبقايا بيوت، من دون بيوت كاملة، كان النّاس يسكنون هناك أيضا في الماضي. خلال هذه الجولة فهمت أمرا جدّ واقعيّ عن قرية اللّجون بأنّها كانت قرية قائمة ومركزيّة، واستطعت أن أتخيّل القرية مليئة بالحياة.
س: هل كان في الكيبوتس أيّ تطرّق يُذكر لقرية اللّجون؟
ج: منذ زمن، في سنوات السّبعينات قام شاب من الكيبوتس مجيدّو بتنظيم طلاّب الصّفّ السّادس لترميم محطّة القمح. ظننتُ أنّ هذا العمل جميل، لكنّني لم أفهم لماذا قام بذلك.
س: هل شارك المهجّرون في عمليّة التّرميم ؟
ج: لا. لقد تمّ ذلك من دونهم. إنّ الشّاب الذي قام بتنظيم الطّلاّب هو واحد من الأبناء الأوائل الذين وُلدوا في الكيبوتس. وحدّثني مرّة أنّه يتذكّر حين كان طفلاً، في سنوات الخمسينات، أنّه سمع صوت تفجير بيوت قرية اللّجون. هذه هي أجزاء من الذّاكرة من لعبة التّركيب البازل وذكريات الآخرين الذين أسائلهم وهم يتداخلون مع ذاكرتي، وهكذا بنسبة ما أنا أتبنّى ذكريات الآخرين. أنا أرى اللّجون وأتخيّل الحياة في القرية، لكنّ ما أراه ليس بالضّرورة ما يراه الآخرون.
س: كيف ترين هذا المكان، قرية اللّجون؟
ج: قرية اللّجون في نظري هي دائما مكان جميل ، مكان ساحر، مليئ بالأشجار والمياه والحجارة المنسجمة مع الطّبيعة. كذلك النّبع الذي تجمّع ليكون بركة. في أيّام القيظ والطّقس الحارّ هناك أماكن عدّة في الكيبوتس يصلها النّسيم اللّطيف البارد، هذا النّسيم آتٍ من اللّجون، ربما يحمل هذا النّسيم معه الذّكريات الجميلة للقرية.
س: هل كان هناك نشاط منظّم للكيبوتس بموضوع اللّجون؟
ج: قبل عدّة سنوات تمّ عندنا عرض فيلم إيلان يجودا الذي يظهر فيه لاجئو اللّجون ولاجئو الكارثة الذين نجوا من النّازية- الذين أقاموا في كيبوتس مجيدّو على أراضي قرية اللّجون، التي تحوّل سكّانها إلى مهجّرين. اللاّجئون النّاجون من الكارثة التي قام بها النّازيّون ضدّ اليهود أقاموا بيوتا في المكان الذي أصبح سكّانه لاجئين. في أعقاب عرض الفيلم جرى نقاش حادّ، استمرّ حتى السّاعة الواحدة والنّصف فجرا.
س: لماذا كان ذلك صعبًًا؟
ج: إنّ مجرّد ذكر اللّجون يعني التّهديد بطرد اليهود. لقد غضب البعض لأنّ الفيلم يبرز بحيّز كبير، حسب اعتقادهم، موضوع اللاّجئين. مع أنّني أعتقد أنّ الفيلم يبرز اليهود أكثر من لاجئي اللّجون. لقد سافرنا، خمسة أشخاص من الكيبوتس لمشاهدة الفيلم في أمّ الفحم مع لاجئي اللّجون. كان ذلك أيضًا صعبًا. يوجد مشهد في الفيلم يقول فيه أحد المهجّرين أنّ أشجار الزّيتون التي تبقّت من اللّجون لا تعرف سكّان الكيبوتس لأنّهم غريبون عن المكان. في النّقاش الذي جرى بعد الفيلم، ظهر غضب عارم من المهجّرين لأنّه "حتّى مجرّد الذّهاب إلى المسجد
أو محاولة ترميمه، ليس باستطاعتنا، لأنّهم لا يسمحون لنا بذلك. لهذا لماذا يحضرون ليشاهدوا معنا الفيلم؟"
س: هل تمّ القيام بأيّ شيء بعد المشاهدة المشترَكة للفيلم؟
ج: هذا السّؤال الأهمّ والأصعب. في المجموعة الصّغيرة هذه فكّرنا بالعمل على إقناع الرّأي العامّ في الكيبوتس، ليتمّ السّماح للمهّجرين بالقدوم إلى المسجد، هناك من خطّط للكتابة في نشرة الكيبوتس. لكنّ الإنتفاضة هبّت ولم يتمّ ذلك. لقد عُرضَ الفيلم مرّة أخرى في الكيبوتس بمشاركة حركة "بات شلوم- بنت السّلام". أحد أعضاء الكيبوتس، من النّاجين من الكارثة، كان يدخل ويخرج طيلة وقت عرض الفيلم والعصبيّة بادية عليه. لاقاني في اليوم التّالي وقال لي وهو يغلي غضبا "ذات يوم سيأتون إلى هنا ويذبحوننا جميعًا وأتمنّى أن تكوني أنتِ أوّل من سيُذبح". أيضا هذا العرض كان صعبا، إحدى الفلسطينيّات قالت لنا: "لماذا تفعلن بنا ذلك؟ إنّ ذلك يفتح جروحنا."
س.: ما هو حال المقبرة والمسجد في اللّجون؟
ج.: كانت المقبرة غير محاطة بجدار منذ زمن طويل، وهذا ممنوع قانونيّا. وكانت هناك إمكانيّة لمعاقبة الكيبوتس على ذلك، لهذا قام سكان الكيبوتس بوضع الجدار خوفًا من العقاب. إستعمِلَ المسجد كمنجرة للكيبوتس خلال فترة طويلة ولم أعرف ذلك لأنه لم يظهر أنّه مسجد فهو بدون قبّة. في مرحلة ما قام حزب المبام بالتّبرّع بنقود لبناء منجرة جديدة.
س: ما الذي جعلكِ تتعرّفين على قضيّة اللاّجئين؟
ج: قد شاركت، مع آخرين، في مشروع آرنا مير في جنين. وقت الإنتفاضة الأولى، قامت آرنا بتجنيد أشخاص من المنطقة وسافرنا إلى مخيّم اللاّجئين في جنين. زرنا إحدى العائلات والتقينا بجدّة مميّزة جدّا وقويّة و"جَدَعَة". كان معنا رجل مسنّ، يبلغ حوالي الثّمانين عاما من كيبوتس "عين هشوفيط" وكانت الجدّة في سنّه تقريبًا. هو يعرف العربيّة لأنّ أهل الكيبوتس القدماء كانوا على علاقة مع جيرانهم الفلسطينيّين قبل عام 1948. سألتنا الجدّة من أين نحن؟ وأجابها المسنّ "من دالية الرّوحة" بدلاً من "عين هشوفيط"، وقالت أنّها من هناك. فكّرتُ أنا أنّنا موجودون في جنين وسط الإنتفاضة، ونحن الذين سلَبنا بيتها، وأنّني لو كنت مكانها لقلتُ "إرحلوا من هنا". بدأت الجدّة تروي حكايات جميلة جدّاعن قريتها وعن نبات معيّن كان ينبت هناك. سألَت هي ماذا يوجد في القرية اليوم؟ فأجابها المسنّ "لا يوجد شيء"، فقالت أنّ ذلك غير ممكن. لقد وُلد والداها هناك، وهي ولدت هناك أيضًا، ولم تستطع أن تصدّق أنه لم يبقَ من القرية شيء، قالت أنّ ذلك مستحيل. لقد تذكّرَت بعض سكاّن الكيبوتس وتذكّر هو بعض سكّان قريتها. حكت أنّها عندما كانت طفلة تسافر في الحافلة- الباص الذي كان يخرج من الكيبوتس إلى حيفا، كانت تختبىء في المقعد الخلفيّ كي لا تدفع ثمن التّذكرة. هو أحضر الخبز المجدول من أجل يوم السّبت، وهي فرحت لأنّ لا أسنان في فمها ولم تستطع أن تأكل الخبز. طلبَت منه أن يأخذها ذات مرّة إلى قريتها ولكنّه لم يفعل ذلك. في هذا الحوار بدأت العجوز تنادي الرّجل المسنّ اليهوديّ "زوجي". هذا اللّقاء كان تجربة جدّ تعلّميّة.
س: كيف كنتِ تحلّين مشكلة مهجّري قرية اللّجون؟
ج: أريد أن يقام حيّ أو قرية جانبنا ليعود إليها أهالي اللّجون ويسكنون فيها. أريدهم أن يكونوا جيرانًا لي. على شرط المساواة كنّا نستطيع العيش معًا بشكل ممتاز. هذا الأمر لا يهدّدني، الحياة في ظلّ الخوف ليست جيّدة. الواقع يُثبت لي أنّه لا أساس للخوف. كان بإمكانهم أن يقتلونا حين زرنا جنين وقت الإنتفاضة لو أرادوا ذلك. أنا أدرك أنّ بناء اللّجون مرّة أخرى لن يحقّق العدل المطلَق، ولكن لا يوجد عدل مطلَق في أيّ مكان. أنا مستعدّة لأن يتنازل الكيبوتس عن أراضٍ لصالح اللّجون، لأنّ الحياة بدون خوف هي المكسب الأكبر. إنّ ذلك الشّخص الذي يخاف من قدومهم لذبحنا يعيش في ظلّ هذا الخوف منذ عام 1949 . أنا لا أخاف منذ زمن طويل، لكنّ النّاس ما زالوا يخافون وإنّه لأمرُ مروّع أن يعيشوا هكذا. في نهاية الأمر من الضّروريّ الإندماج في المنطقة. نحن لسنا في أوروبا ويجب أن نفهم أنّه يجب التّوقّف عن العيش في الجيتوات. اللاّجئ هو لاجئ، ويجب أن نفهم ذلك جيّدًا أكثر من غيرنا. في أوروبا الشّرقية يستعيد اليهود أملاكهم اليوم، ولا يسبّب ذلك أيّ كارثة.