دوف: ما الذي أتى بكِ لمقابلتي؟
رنين: نحن نقوم بجولات إلى القرى الفلسطينية المهجرة، وحالياً أنا مهتمة بقرية كويكات، والتي يسكن البعض من أهلها في قريتي كفرياسيف، وأيضاً في قرى أبوسنان والمزرعة، وقسم في لبنان وسوريا.
- أنا التقيتهم في حرب لبنان الأولى.
- أين التقيت بهم؟
- في مخيمات صيدا، التقيت الكثير من اللاجئين
- كيف؟
- عملت كمتطوع من الجيش الإسرائيلي لمدة شهر، وخدمت في مخيمات صيدا وصور وفي كل الأماكن. وأرسلت التحيات والرسائل للاجئين من عائلاتهم التي تسكن هنا في البلاد.
- وكيف تقبلوك هناك؟
- لقد كنت جندياً في وحدة جيش اهتمت بمساعدة اللاجئين. مهمتي كانت مساعدتهم وتأمين الماء والطعام لهم. معي، شعر اللاجئون أن هناك من يستطيعون التحدث معه. أرسلت السلامات والتحيّات للاجئين من عدّة قرى مهجّرة والتي انا بنفسي قمت باحتلالها في حرب الاستقلال عام 1948. هل فهمت؟
- كيف كان بالنسبة لك أن تلتقي مع ناس قمت بتهجيرهم عام 48؟
- يومها لم أعرفهم بشكل شخصي. لقد قمت باحتلال قراهم وهم هربوا، وثم التقيتهم مرّة أخرى في مخيمات اللاجئين في حرب لبنان. أشعر بالأسف عليهم، كما شعرت بالأسف عليهم في السابق.
- حدّثني، أين ولدت؟
- انا ولدت في البلاد على زمن الأتراك، لقد خرج الأتراك من البلاد عندما كنت في عمر4 سنوات. ولدت في مستوطنه بيت جان واليوم هي جزء من بلدة يفنه. عشت هناك حتى عمر6 سنوات، وبعدها انتقلت عائلتي الى "موشاف" (نوع من المستوطنات التعاونية الصهيونية الصغيرة) نهلال قرب قرية عيلوط والناصرة. أنا أعرف البلاد جيداً. زوجتي وُلدت في نهلال ووالدها كان من مؤسسي البلدة. في نهلال بدأت علاقاتنا مع العرب في المناطق المجاورة وخاصة البدو الذين سكنوا بجوارنا.
قدِم والدي من روسيا عام 1910، حيث كان منخرطاً بالعمل السياسي آنذاك، وبالإضافة، كان المدرّس في نهلال صاحب قيم إنسانية حقيقي، ومن هنا بدأ اهتمامنا بالعرب المحيطين بنا. زوجتي كانت تزور المناطق البدوية لوحدها، فهي لم تكن بعيدة. انضممت الى الهجناه وعمري 16 سنة. وعند مجيء "الطلائعيين" في تلك الفترة عملوا في الزراعة، ومن خلال عملهم تطورت علاقتهم مع العرب من المناطق المجاورة، ومع أنها كانت علاقة بين عامل ومُشغّل إلاّ أنها كانت علاقة إنسانية.
في موشاف نهلال الذي عشت به، عمل فلاّحون عرب في أرضنا. لم أتوقع أن تتعامل الصهيونية مع العرب بهذه الطريقة وكنت مقتنعاً أننا لن نقوم بطرد أي إنسان.
في تلك الفترة بدأت مشاجرات بين أهل الـ"موشاف" والقبائل البدوية المجاورة لنهلال. تمحورت المشاجرات حول المراعي، حيث أنه لم يعد باستطاعة البدو استعمال المراعي بشكل حر كما فعلوا سابقاً، بعد شرائها من قبل اليهود. وكلما أتى الرعاة الى أراضينا كنا نقوم بطردهم. لكن من جهتـنا كان هناك فضول كبير للتعرف على جيراننا.
- ما هو سبب الفضول؟
- في تلك الفترة قرأنا العديد من الكتب الكلاسيكية، قرأنا كتباً في الأدب الروسي، الإنجليزي، الفرنسي والنرويجي. قرأنا عن اناس طيّبين وعن فلاحين يسكنون في قراهم بسلام. كناّ مشبّعين بالروح الإنسانية وأردنا أن نطوّر علاقات مع جيراننا العرب. كان يأتي الينا العديد من البائعين المتجولين ليبيعوا لنا الخضار والبيض، كانوا يدخلون الـ"موشاف" ويصرخون "بندورة"، ومعناها بالعبرية "عجفنيوت".
- هل كان العرب فضوليين نحوكم بنفس الدرجة؟
- طبعاً، طبعاً، لكن ليس مثلنا. هم لم يتعلموا أبداً ونحن كنا نتعلم من جيل الحضانة. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك نوع آخر من العلاقات مع العرب. في فترة "الهجرة الثانية"، بنى البارون روطشيلد العديد من المستعمرات، وعمل العرب في حراسة هذه المستوطنات من اللصوص. كانت تأتي عائلة قوية، مثلاً أبوكشك، كانت تتولى حماية مستعمرة معينة فتحرسها. عندها قال "الطلائعيون"، ومنهم والدي، "نحن نرفض أن نظل أولاد الميتة"، (كنية اطلقها العرب على اليهود)، وقررنا أن نحرس أنفسنا بأنفسنا". عندها تكوّنت منظمة "هشومير هتسعير" (الحارس الصغير) ومنها انبثقت "الهجناه" فيما بعد.
- دعنا نقترب الى عام 1948، ماذا حدث في كويكات؟ أين كنت؟
- انا كنت هنا في الكيبوتس، كنت يومها ضابطاً، وطبعاً كنا نملك أسلحة أفضل من الأسلحة التي امتلكها العرب.
- لماذا؟
- لأننا كنا متطورين أكثر من العرب من الناحية التنظيمية والاقتصادية والعسكرية.
- لماذا كانت الهجناه منظّمة أكثر؟
- نحن أكثر تطوّراً. انا بنفسي قمت بالهجوم على كويكات، وفي الليلة التالية على عمقا وبعدها بأيام على البروة وثم شفاعمرو، صفورية والناصرة. كل هذه البلاد احتلتها سرّيتي، قمنا باحتلالها بسهولة وتقريباً بدون خسائر من الطرفين.
- وكيف تفسّر ان هنالك أربع نساء من كويكات وعمقا قتلن على يد قوات الهجناه؟
- ممكن، لم أعلم حينها عن وجود مصابين كما تقولين وكما سمعت لاحقاً من أهل القرية. مهمة سرّيتي كانت احتلال القرية. وبعد احتلالها أتت قوّات أخرى وكانت مهمتها السيطرة على القرى.
أنا شخصياً أنتقد ذلك بشدّة، لأنه باللحظة التي انتهت بها الحرب، استمرت دولة اسرائيل في الحكم العسكري حتى عام 1966، كي تمنع عودة الناس إلى قراهم. برأيي كان عليها أن تسمح للاجئين القاطنين في دولة اسرائيل بالعودة إلى قراهم وعدم حصارهم في "جيتوهات". برأيي هذه كانت إحدى الجرائم التي قامت بها إسرائيل.
أريد أن أقرأ لك فقرة عن احتلال كويكات، من كتاب كتبته عام 1998، "ذكريات صبر بدون شوك" (المصطلح " تسبار" بالعبرية ومعناه نبتة الصبر أو الصبار أعطي ككنية لليهودي المولود في البلاد). به ألأاتحدث عن المعارك التي شاركتُ بها. كنت حينها قائد سرّية تشمل70 جندياً، في كتيبة رقم 21، ومهمتي كانت احتلال كويكات وعمقا:
" في الثامن من تموز/يوليو، دعيتُ الى مقرّ القيادة وتلقـيـتُ أمراً باحتلال قرية كويكات في نفس الليلة. هي قرية مسلمة كبيرة، تقع على تلة وتبعد 10 كم عن الكابري، على الشارع الممتد من جهة الجنوب. استناداً الى المخابرات، تواجد في القرية 100 حامل بندقية، حيث طوّروا عند قدومنا، منظومة دفاعية، وكان من المرجّح أن تتجه قوات القاوقجي الى القرية للمساندة، في حال تم الهجوم عليها.
قام اللواء بتزويدي بمصفحتين مع مدفعين، مدفع هاون 3 انش، عدد قليل من القذائف و"بطـّاريات نابليونية" للضربات التمهيدية والتي سيتم نقلها لبضع ساعات من موقعها الثابت في رأس الناقورة.
مع حلول الليل، خرجنا من مستوطنة "رجبا" سيراً على الأقدام، وعند وصولنا مشارف القرية أطلقت علينا نار قوية، ولكنها توقفت بعد إطلاقنا قنابل من مدفع الهاون وبعض القنابل اليدوية،,وفي عمق القرية بدأت تفرقع رشاشات المصفحات. بعدها قمنا بمسح القرية من الجهة الشرقية ولم نجد أثراً لأي إنسان.
كان الهروب سريعاً وكاملاً. لم يكن هناك مصابون في سرّيتي ولم نجد أيضاً مصابين من أبناء القرية. ومن خلال تفقـّد البيوت رأيتُ بقايا طعام وفناجين قهوة ممتلئة، كان هذا في شهر رمضان، وفهمت حينها أن هجومنا على القرية كان مفاجئاً جدا"ً.
- كان هذا في الليل؟
- نعم، وعند وصولنا إلى القرية في ساعات الصباح، كانت خالية تماماً، ورأينا الناس على التلة، وخفنا من هجوم معاكس. لكن بدلاً من أن يساعدهم بقي القاوقجي في ترشيحا ولم يحضر لمساندة أهل القرية. لم يكن باستطاعة أهل القرية الهجوم لوحدهم فقاموا بالفرار.
- هل كانت هناك مقاومة في قريتي عمقا وكويكات؟
- كان القليل من الطلقات، أطلقوا النار وهربوا، ولم تكن خسائر.
- انت قمت باحتلال القرى ليس بسبب إطلاق النار وإنما بسبب موقع القرية، صحيح؟
- صحيح، بسبب الموقع، وتأمين هذا الشارع. لقد طلب مني أن أحتل كل القرى على هذا الشارع. في الصباح التالي أتت قوات الحكم العسكري ووافقت على استسلام قرى أبوسنان، كفرياسيف، يركا وجولس. استسلمت هذه القرى ورفعت الأعلام البيضاء، وهنا انتهت الحرب في هذه المنطقة. وما حدث في عمقا كان مشابهاً للكويكات.
- عند دخولكم الى عمقا كانت فارغة؟
- نفس الشيء، لم يتوقع الناس أننا سنهجم ليلة بعد ليلة، وهربوا إلى أبوسنان، وقسم منهم الى لبنان.
- لنعد الى الوراء 60 عاماً، لو أعطيتَ مرة أخرى ذات الأمر باحتلال القرى، هل كنت ستفعل ذلك؟
- طبعاً. عندما حاربت عام 48، كنت على يقين أننا اذا لم نربح الحرب، سوف يذبحوننا مثلما فعلوا بنا في الكارثة اليهودية (الهولوكوست).
- انت تقول لي، أن الخوف من الكارثة كان المحفزّ للاحتلال؟
- ليس فقط الخوف من الكارثة، أيضاً كل تاريخ هذه البلاد. عندما بدأ المفتي وقوات الدفاع العربية بالهجوم علينا، كان يجب ان ندافع عن أنفسنا.
- أنت تعلم أن هنالك الآف اللاجئين من كويكات وعمقا في لبنان، هؤلاء اللاجئون يطلبون العودة الى قراهم، ما رأيك بالموضوع؟
- أعتقد أن المشكلة ليست عمقا أو كويكات، إنما مشكلة قومية يجب حلها عن طريق بناء دولة فلسطينية تستوعب جميع اللاجئين. أمّا المهجّرون داخل البلاد فيجب أن نسمح لهم ببناء قرى جديدة، لكن ليس في المناطق المأهولة بالسكان اليهود.
- اذاً أنت تفصل بين الفلسطينيين في البلاد وبين الفلسطينيين في الدول العربية؟
- طبعاً، لا توجد امكانية لإرجاع 3 مليون لاجيء إلى دولة إسرائيل.
- هل كنت على استعداد لأن تقول هذا للاجئين الذين التقيتهم في لبنان؟
- لم أكن لأقول لهم شيئاً، أنا فقط قمت بتزويدهم بالمياه... كنت سأقول إنه عليكم ان توافقوا على بناء دولة فلسطينية، وإسرائيل ستكون أكثر المعنيين بتأمين المساعدات والإمكانيات. لكن من المهم أن يبنوا لهم دولة حديثة وليس كما كانت في الماضي.
- كيف كانت في الماضي؟
- كانت دولة متخلفه، متخلفة اقتصادياً ومن جميع النواحي. يستحق الفلسطينيون دولة مشابهة لدولتنا.
- هل تعرف نفسك اليوم كصهيوني؟
- أنا أنتهيت من الصهيونية منذ سنوات.
- لماذا؟ ما حدث قبل سنوات؟
- بسبب المستوطنات، لقد أثبتت لي الحركة الصهيونيه وايضاً حزب "مباي" والعمل و...، أنهم لن يقوموا بفعل أي شيء لإيقاف الإستيطان وبناء دولة فلسطينية.
- ولكن من جهة أخرى انت لا توافق على عودة اللاجئين؟
- لم يعد يهمني الأمر...
دوف يرميا
الكويكات (1949)
-----------------------