مقدّمة
خلال الفترة الواقعة بين تشرين أول (أكتوبر) حتى كانون أول (ديسمبر) 2020، تبلورنا في إطار مجموعة تعلّمية حول النكبة في سياق ورشة ״Decolonizing TLV من أجل التعلّم، والتعرف، والإصلاح״ وهي ورشة تابعة لجمعية ذاكرات. وخلال الورشة، تعلّمنا عن النكبة في لواء يافا، وبدأنا بالنظر إلى أنفسنا وإلى المشهد الذي نألفه بعيون جديدة، عيون قادرة على تشخيص دلائل الحياة الفلسطينية والمحو المستمر لعلاماتها من الحيّز. لقد قمنا بإجراء مسح ليافا قبل النكبة، وكذلك لتل أبيب المتوضّعة على أراضي يافا وقرى الشيخ مونّس، منطقة الصيادين، الجماسين، المسعوديّة (صميل)، المنشية، إرشيد، أبو كبير، إلى جانب أكبر قرى المنطقة قرية سلمة.
لقد اكتشفنا ورأينا خلال الورشة كيف تمّ دفن حياة كاملة تحت المسطّحات العشبية شديدة النضارة، والساحات المرصوفة. كانت تلك الحياة حياة كاملة ثرية بالقصص والمعنى. تعلّمنا وتمرنّا على قوة الخيال السياسي، وتعمّقنا في سيرورة تحمل مسؤولياتنا كيهوديات- إسرائيليات بشأن النكبة التي حدثت، النكبة التي لا تزال مستمرة في جميع أرجاء فلسطين، وبشأن تحقيق عودة اللاجئين إلى بلادهم.
في عملنا المشترك والنهائي، قررنا أن نذكر قرية سلمة، التي لا يزال لاجئوها وسلالتهم على قيد الحياة حتى اليوم في المخيمات، وفي الشتات، وبين ظهرانينا أيضا، كمهجّرين داخل حدود 48، أو كسكّان المناطق المحتلّة الواقعة في الضفة الغربية وقطاع غزة المحاصر.
***
سلمة هي مكان. سلمة هي قرية كبيرة وتعج بالحياة، فيها بساتين، وأنظمة ريّ، وشركات إنتاج زراعي، وشركة مواصلات. سلمة هي مجتمع، عاش فيه آلاف النساء والرجال، ثم اقتلعوا منها، ومنهم يتحدر آلاف كثر موزّعون في فلسطين المحتلة، ومخيمات اللاجئين، وأرجاء العالم. سلمة هي فكرة تعيش في أذهان المهجّرين، فكرة تُنقل بعناية إلى أبنائهم، وأحفادهم، وأبناء أحفادهم. سلمة هي شهادة عن حياة ثرية، عائلات وأطفال، ألعاب في الحقول، رائحة دافئة وطازجة متصاعدة من الطوابين. سلمة هي بقايا، مسجد باق مهجور، موقع قديم لدفن أحد صحابة النبي محمد (ص)، أشجار الأرز، والمقابر المغطاة بالأسفلت والمرجات. سلمة هي بيت، بيت ظلّ متروكا، وصار بيتا للآخرين. سلمة هي دم سُفك، من عائلات سقطت قذائف الهاون على رؤوسها سنة 1948. سلمة هي أيضا ׳كفار شاليم׳، وهو اسم أطلقته دولة إسرائيل على القرية بعد قيامها بإسكان اليهود في منازل الفلسطينيين، ويكافح هؤلاء السكان حتى اليوم ضدّ الإهمال وجهود النهب على مرّ السنوات، في خدمة الملّاكين ورجال الأعمال الجشعين، التوّاقين للسيطرة على الأراضي. سلمة هي وجع، سلمة هي نضال، سلمة هي ظلم، لكنّها أيضا حياة كاملة للتجمّعات البشرية والعائلات.
في هذا الكتيّب، نحاول أن نلمس الوجوه المختلفة لسلمة، وأن نقدّم لمحة وفهما جزئيا لمكان هو قرية، وفكرة، وشهادة، وبقايا، ومنزل. مكان لا يزال النضال من أجله مستمرٌّ وحيّ، في سعي لتحرير وعودة المجتمع الفلسطيني، وفي محاولة لضمان عيش كريم للسكان اليهود الذين أتوا إليه وجعلوا منه وطنهم.
״كل شيء كان حلوا، كنّا نأكل من أرضنا״، قالت زهرة عبد القادر أبو حاشية، اللاجئة من سلمة لرنين جريس في مقابلة أجرتها معها سنة 2008، وهي مقابلة نعيد نشرها هنا في الفصل الأول. من منزلها في عمّان. تعبّر زهرة عن توقها لقرية طفولتها، وتحكي عن عنف المستوطنين اليهود ضد عائلتها التي عاشت على أطراف القرية. لقد حاول مهاجمون يهود مهاجمة منزل العائلة، وقد تلقّى والدها بشموخ ضرباتهم وهو يتلو آيات من القرآن. وحين تصاعد العنف، اضطروا لترك منزلهم، وظلّت أغراضهم خلفهم. قال خالها بأنّهم على أي حالٍ سيعودون سريعا. لقد ظلّت في بالها ذكرى النساء الباكيات واللواتي ينتفن شعورهن.
كانت قرية سلمة، حتى سنة 1948، موطنًا لنحو7810 امرأة ورجل، وكما سنفصّل في الفصل الثاني، فقد امتلكت القرية آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية، ومدرستين، ومكتبة، وجوقة موسيقية، وناديًا رياضيًّا. ״كانت سلمة قرية مزدهرة ومثقفة״، كما شهد يوسف حماد، وتحدث عن الأعمال التجارية المزدهرة للسكان في مجالات الزراعة، والتجارة، والمواصلات.
صدى سلمة الفكرة، لا يزال يضج في حياة وإنتاجات لاجئيها. هذا ينطبق أيضا على أعمال مصطفى الحلاج، وهو فنّان من مواليد سلمة، ظلّت ذكريات قرية طفولته التي اقتلع منها حينما كان يبلغ من العمر 10 سنوات، محفورة في ذهنه. في الفصل الثالث، نتتبع أشجار السدر التي كانت مصدر إلهامه، ولا تزال مزروعة في أرض سلمة / كفار شاليم. لقد حظيت أعمال الحلّاج باعتراف دولي، وفازت بجوائز. وسنة 2002 توفي حينما كان يحاول إنقاذ هذه الأعمال من الحريق.
في أيار 1948، كتب أحد الصحفيين من جريدة دافار: ״قدماي واقفتان في أرض سلمة. يفعم القلب شعور رائع [...] في عيد الحرية تحررت الأحياء اليهودية من عقاب سلمة״1. وفي جملة تراجيدية واحدة، تم تعريف مجتمع كامل بوصفه ״عقابا״، وصار اقتلاع هذا المجتمع يؤدي إلى ״شعور رائع״ لدى المتحدث، ويُنظر إليها، في قلب مرير للواقع، بوصفها عملية تحرر وحرية. في الفصل الرابع نصف باختصار المعارك التي أدت إلى تهجير سلمة التي تحولت مع الإعلان عن خطة التقسيم، بين ليلة وضحاها، إلى خطّ حدودي يفصل بين ״الدولة اليهودية״ و ״الدولة العربية״. بعد ذلك فورا، بدأت هجمات القوات الصهيونية على القرية بإطلاق النار، والتلغيم، والقصف، وقد نصت أوامر الحملة على ״التسبب في إسقاط القتلى، وقصف المنازل، وحرق كل ما يمكن حرقه״. لقد قاوم سكان سلمة، ولكن في أواسط نيسان (أبريل) 1948 بدأ قصف الراجمات الذي لا يميز على القرية، وفي ״حملة حاميتس״ بعد أسبوعين من ذلك التاريخ، تم احتلال القرية وطرد سكانها. بعد أيام قليلة على ذلك، اقتحمت مجموعة من سكان حي هتكفا القرية المهجرة، وقامت بنهب ما تبقى من الأملاك، وأضرمت النار في بعض منازلها.
نجلب في الفصل الخامس أصوات بعض لاجئي سلمة الذين يحملون معهم جراح تهجيرهم، سواء إلى يافا الجارة، أو ولاية كونيتيكت البعيدة. في مقابلات أجريناها مع كل من فيصل صالح وعلي يتيم، نسأل عن الحياة في القرية، وعن الجرح الذي ظلّ مفتوحا منذ تهجيرهم. كانت عائلة فيصل تملك مساحات زراعية شاسعة ومثمرة، فيها أنظمة ري متقدمة، أما عائلة علي فقد كسبت رزقها من الاتّجار بالبقر. وبوصفهما أبناء لأهل مسنّين، يحاولان استحضار التاريخ العائلي من خلال أحاديث الوالدين والإخوة الكبار، إلى جانب تجميع وثائق عائليّة، كتاب حسابات كروم عائلة فيصل، وسجلّ لرؤوس الأبقار الخاص بعائلة يتيم. كان والد فيصل شريكا في شركة المواصلات التابعة لسلمة، وبوصفه عضوا في هيئتها الإدارية، كان موقّعا على أسهم اشتراها سكان القرية وآخرون. وحين تصاعدت هجمات الصهاينة، وتفاقمت الخشية على حياة الأطفال، اقتلعت العائلات من سلمة. بدأت عائلة فيصل بالتنقل شرقا، وتوزّعت على مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية، أما عائلة علي فقد استقرّت في أحد منازل يافا، كان سكانه قد تم طردهم قبل أيام قليلة من ذلك. هاجر فيصل لاحقا إلى الولايات المتحدة حيث يعيش هناك إلى اليوم، أما علي فقد ظلّ في منزل طفولته في يافا. يقول فيصل بأسى: ״لا أعرف ما أنا لا أعرف ما الذي كان والداي يفكران به على مدار سنوات طويلة، ابتداء من سنة 48 وحتى توفيا. لم أتخيل أبدا كم كان الأمر صعبا. وهذا هو الثمن الأصعب بالنسبة للفلسطينيين. الأسى النفسي. لا يمكن تعويض ذلك״.
شُرع في إسكان سلمة من قبل السلطة الإسرائيلية بعد نحو شهر من التهجير. في البداية قامت السلطات بتشجيع اللاجئين اليهود الذين هجّروا في المعارك التي دارت في المنطقة، للالتجاء إلى المنازل الفارغة، وبعد ذلك شُرع بتنفيذ عملية إسكان منظّمة للمهاجرين اليهود الآتين من اليمن، والعراق، وكردستان. ومع ذلك، ومنذ اللحظة التي امتلأت فيها المنازل الفارغة، وبذا: تم وضع عقبة كبيرة في وجه عودة اللاجئين الفلسطينيين، تمّ إهمال البنى التحتية في القرية، وحرم المستوطنون اليهود من بناء المباني بأنفسهم. في الفصل السادس، نقوم بإجراء مسح لسلمة ما بعد سنة 1948: إذ تمّ ضم غالبية أراضيها إلى تل أبيب، وتم تغيير اسمها إلى ״كفار شاليم״، وقد تمّ تحويل ملكية بعض أراضي القرية إلى الصندوق القومي اليهودي، أو تمّ ضمّه إلى مدينة رمات غان، وعليها أقيمت أحياء سكنية إلى جانب المنتزه الوطني. وبواسطة شركة ״حلميش״ تم إخلاء الكثير من السكان اليهود ونقلهم إلى شقق في أحياء سكنية شعبية تحيط بكفار شاليم، وقد عملت بلدية تل أبيب على هدم مباني سلمة الأصلية. وعلى مدار السنوات، كانت هنالك علاقات متوترة بين سكان كفار شاليم وبين مؤسسات الدولة، بلغت أوجها سنة 1982 حينما تم إرداء أحد سكان الحي، وهو شمعون يهوشع، بالرصاص حينما كافح ضد الإخلاء. وقد تم منذ ذلك الحين إخلاء مئات العائلات ومنحها تعويضات شحيحة، تعيش اليوم نحو 300 عائلة في مجمّعات صدر القرار بهدمها، كما يواجه عشرات السكان خطر الإخلاء الفوري بسبب شق سكة القطار الخفيف.
لقد تمّ إسكان اليهود في كفار شاليم، وهم يهود شرقيون في معظمهم، من أجل الحؤول دون عودة اللاجئين الفلسطينيين، ولكنه قد تم حرمانهم بصورة مقصودة من تسوية حقوق الملكية. نقابل في الفصل السابع أربعة يهود إسرائيليين نشأوا في سلمة، ونقف على أبعاد سياسة ״توزيع غنائم״ النكبة، وعلى الفوارق الاجتماعية والاقتصادية داخل المجتمع الإسرائيلي. يتحدث كلّ من تصوري، وبازيت، وإيفي، وأيالاه، عن الحياة في كفار شاليم، وكما قالت أيالاه:
كنا نطلق على مكان سكننا القرية. ستظل هذه القرية هي عالمي حتى الأبد. دائما ما نستخدم اسم سلمة فنقول ׳في سلمة׳ وفي بعض الأحيان ننسى أنهم قد حولوها إلى كفار شاليم״، إن شهادات هؤلاء تكشف وقائع الاستغلال والإهمال والسلب، ولكنها أيضا تتيح لنا تخيّل واقع بديل من تفهم معاناة الآخر، واقع مبني على الشراكة في المصير، والتماهي، والتعاطف.
يتحدث أهارون مدويل، رئيس حركة ״مدينة من أجل الجميع״ وسكرتير لجنة حي كفار شاليم، في المقابلة التي أجرتها معه نتالي باروخ، عن تاريخ عمليات الإخلاء في الحي. وفي هذا الحوار الذي نعيد نشره هنا في الفصل الثامن، يتحدث مدويل أيضا كيف أن سخرية القدر قدّرت لواحدة من الحملات الشرطية لإخلاء سكان الحي في سنوات التسعينيات أن يُطلق عليها اسم ״حملة ׳بيعور حاميتس׳״، كصدى لـ ״عملية حاميتس״ التي في إطارها تم اقتلاع سلمة الفلسطينية قبل نحو خمسين عاما من ذلك التاريخ.
وضعت شركة باصات سلمة القرية في قلب شبكة خطوطها، وقد ربطت ما بين يافا والبلدات المجاورة بمطار اللد ورام الله. في الفصل العاشر والأخير، وعبر نصّ إثنوغرافي- تاريخي، نتأمل في تحوّلات سلمة من قرية فلسطينية هامة ومزدهرة في لواء يافا، إلى حي يهودي شرقي مهمل على هوامش تل أبيب. التنقّل بالحافلة من منزل علي يتيم، وهو لاجئ من سلمة ويقطن في يافا، إلى منزل عائلته في سلمة الذي دمر سنة 48، استغرق 48 دقيقة. المشهد من نوافذ الحافلات، والمحطات، وأسماء الشوارع، من تصادفت مجاورتهم أثناء التنقل، والمارّة، كل هؤلاء يحكون شيئا ما عن الحيّز وعن التنقّل فيه.
***
ليس هذا الكتيّب كتيب مذكرات، هو بكل تأكيد ليس كتيب مذكّرات بالمعنى المألوف لـ ״إحياء الذكرى״، كما أنّه ليس بحثا تاريخيا أكاديميا. يهدف هذا الكتيب إلى خلق لقاء بين الجمهور والنكبة. وهو يتوجّه، على وجه الخصوص، إلى الجمهور اليهودي القاطن في هذه الأرض، بناء على اعتقادنا بأن تعلّم النكبة والتعرف على دور ووظيفة إسرائيل في خلق واستمرار الكارثة الفلسطينية، خطوة ضرورية من أجل التصحيح.
كتيّب ״ذاكرات سلمة״ هو الكتيب رقم 65 من سلسلة الكتيبات التي أنتجتها ذاكرات لتوثيق الأماكن التي احتلّتها إسرائيل ودمّرتها إبّان النكبة منذ سنة 1948. وقد سبق هذا الكتيب كتيّبات عن المواقع التالية: عنابة، بيت نبالا، بيت نتيف، دير أبان، لوبية، صرعة، حدثا، الرويس، ميعار، بلد الشيخ، ياجور، البصة، طيرة حيفا، الخليل، المنشية- عكا، معلول، طبريا، عاقر، البروة، خبيزة، كفر سبت، القبو، عيلبون، إقرث، كفر برعم، المنشية- يافا، الغبيّات، سبلان، العراقيب، كفر عنان، الدامون، مسكة، السميرية، سمسم، الراس الأحمر، عين كارم، عجور، الكويكات، خربة أم برج، خربة اللوز، الشيخ مونّس، المالحة، العجمي في يافا، عمواس ويالو وبيت نوبا، حطين، الكفرين، الشجرة، ترشيحا، بئر السبع، اجليل، اللجون، سحماتا، الجولان، أسدود والمجدل، خربة الجلمة، الرملة، اللد، عكا، حيفا، عين المنسي، الحرم [سيدنا علي]، عين غزال، لفتا، ودير ياسين.
لتحميل الملف