أعيش في المخيم، منذ اكتشفت عيوني فضاءها البصري، ومنذ عرف جسدي أن أزقة المخيم لا تتسع للرقص، رأيت كل شيء في حياتي، وأحسستُ وحلمتُ بكل شيء من منظار المخيم، مكاناً وذكريات ريف مشعة، توارثتها (شجرة شجرة، وينبوعاً ينبوعاً) عن جدي، وسياقاً وطنياً وحلم عودة. 
في طفولتي، حين كان يُسألني أحد من كبار السن في المخيم: من وين إنت يا ابني؟ كنت أجيب على الفور: من (بيت نبالا)، قضاء الرملة، وكنت أرى الفرحة على وجه السائل ترقص، وتتحول إلى حديقة من فراشات جذلى، في ما يشبه احتفاءً بالجواب المشتهى، أو طمأنينة على عافية ذاكرة مخبأة في حبة القلب، أو قلقاً يحسه السائل العجوز على مصير البلاد المنهوبة في وجداننا، نحن أطفال المخيم. كان المشهد واضحاً: لاجئون عنيدون يحلمون ببلاد بعيدة، طردوا منها ذات كارثة، يعيشون مؤقتاً في مكان اتفق على تسميته (المخيم). كنا واضحين، الأعداء واضحون، الألم واضح، الحنين واضح. لا شيء يتداخل مع شيء، لا شيء يصنع التباساً مع شيء آخر. لا شيء يستعير أفقاً أو لوناً من شيء آخر. الآن، تداخل كل شيء، صار الحنين إلى أرض الحكايات الكبرى رومانسية فجة وقديمة، وصار النضال من أجل العودة لا واقعية عقيمة، ومحض شعارات ترفع فقط حلية كفاحية استعراضية، لا برنامج أو خطة أو استراتيجية، ولم يعد المخيم مخيماً، صار حيّاً في مدينة، أو حارة في بلدة، ارتفعت فيه عمارات ضخمة، وجاءه أناس من خارجه، ليستأجروا فيه الشقق. لم تعد أحاديث المقاهي قصص البلاد وحكايات الحصاد وليالي الصيف الرائق والبحر، صارت الأحاديث عن الأعمال وزواج الأولاد، وقصص رعب داعش، وسحر "تويتر" و"واتس أب" وجاذبية "فيس بوك". وحين أسال طفلاً في المخيم، من أي بلد أنت؟ يجيبني على الفور أنه من مخيم الجلزون. وحين أسأله عن المكان الذي ولد فيه جده، يجيب (مثلاً) العباسية. وحين أقول له: أنت، إذن، من العباسية، أليس كذلك؟ يصفعني بجواب خطير: "لا، أنا من الجلزون وجدي من العباسية". 
مات معظم كبار السن الذين ورّثونا ذكرياتهم، فصارت ذكرياتنا التي لم نعشها هناك، وعشناها هنا. لم نحافظ عليها كما كان يفترض بنا أن نفعل. لم نبذل جهوداً حثيثة لنصد عن أطفالنا غول اليأس ومرض الاستسلام لغوايات عصر لا تُذكر فيه أسماء بلدانهم الأصلية في اليوم ألف مرة. لم نقل لأطفالنا، بما يكفي، من عزيمة وصوت مبحوح وثقة، أن لا حقّ يضيع ما دام خلفه مَن يطالب به، ولو بطاقة الحناجر، وبعد رحيل الحاجة صفية، قبل أعوام، عن (96 سنة)، من ( بيت نبالا)، الساكنة في مخيم الجلزون، منذ عام 48، لم يعد أحد يوقف (أوتنبيل)، حافلة المخيم، ليسأل سائقه إن كان متجهاً إلى بيت نبالا أم لا، قالوا عنها مجنونة، وفاقدة للعقل والمنطق، قليلون جداً رأوا فيها هلوسة مفهومة، وحنيناً مريضاً، تسبب فيهما ثقل فاجعة فقد البلاد، وتفسخ الحياة بشكل مفاجئ، نادرون جداً مَن اتفقوا على أن هلوستها عين العقل وحنينها المعتوه عين المنطق، وأن كل من لا ينتظر (أوتنبيله) في شوارع المخيم، هو الأخرق والأهبل وفاقد العقل تماماً. 
ثمة خطط يجب أن توضع، ولا أعرف كيف، لاسترجاع حيوية الحلم ووهج الحنين إلى أرض الحنين. أتذكر، الآن، أم راشد، ابنة المخيم الثمانينية، وهي تجيب بعصبية على سؤال لصحافي أجنبي: "أنت تعيشين هنا. لديك بيت وأولاد وزوج يعمل، أليس هذا كافياً لنسيان الماضي"؟ جن جنون أم راشد، وصاحت في وجه الصحافي: "ولك شو اللي بتحكي فيه؟ أنا هون لاجئة، وبلدي هناك. (أشارت إلى يافا)، وهاي البلد اللي أنا فيها هون ما بعرف شو اسمها بس بعرف فلسطين اللي هي هناك، يلا امشي من قدامي، عمى يعميك". 
لم يعد أحد يغضب، اليوم، على أسئلة الصحافيين الغريبة والمشبوهة. بل بالعكس، صار بعضهم يبتسم لهم بكامل الملامح، بل ويتجول معهم بسعادة في الأزقة، مباهياً بهم الأهل والأصحاب والجيران، ثم يعزمهم على البيت، ويطعمهم "مفتولاً" أو "مقلوبة"، وينسى أن يقول لهم إن المقلوبة والمفتول أكلات لاجئة مثلنا، وتحنّ إلى العودة، تماماً مثلنا.