في عام 1902 نشر "تيودور هرتسل" روايته الوحيدة بالألمانية، بعد محاولات مسرحية وقصصية فاشلة. في روايته التي حملت عنوان "ألتنويلاند" يرسم الأب الروحي للصهيونية صورة لدولة اليهود كما يتخيلها عن طريق فريدريك، المثقف النمساوي الذي يزور فلسطين "إريتس يسرائيل" لأول مرة. عنوان الرواية المكتوبة بالألمانية يعني "الأرض القديمة الجديدة"، ولكن عندما تُرجمت إلى العبرية في السنة نفسها، لم يجد المترجم "ناحوم سوكولوف" في العبرية مصطلحاً مقابلاً لـ"ألتنويلاند"، فقرر صك مصطلح "تل أبيب" ليكون عنواناً للترجمة العبرية. كانت وجهة نظره أن تل أبيب يمزج بين القدم والجدة، "تل" يشير إلى القدم، و"أبيب"، بمعنى الربيع، يشير إلى التجدد.
بعد ذلك بسنوات معدودة، في 1909، سيعلن رسمياً تأسيس حي يقع شمالي مدينة يافا. سُمي الحي مؤقتاً باسم "أحوزات بيت"، وهو اسم النقابة التي بنت الحي، ثم توالت الاقتراحات لاسم الحي الذي سيتحول إلى مدينة تنطلق من ضواحي يافا، ومن الاقتراحات "يافا الجديدة"، "نفيه يافا"، "أفيفا"، و"هرتسليا"، نسبة لتيودور هرتسل. في 1910 اقترح "مناحيم شينكين" اسم الترجمة العبرية لرواية ألتنويلاند: تل أبيب. هكذا لازمت روح هرتسل المدينة الجديدة من أيامها الأولى.
من أسس تل أبيب؟
لم يؤسس هرتسل تل أبيب، فقد مات عام 1904، أي قبل الإعلان عن الحي الجديد بخمس سنوات. ظلت روحه مصاحبة لسنوات تأسيسها. هناك شخصان يُنسب لهما تأسيس حي يهودي شمالي يافا. الأول هو "مئير ديزنجوف"، وهو من يرتبط اسمه في الوعي العام بمدينة تل أبيب، وكان هاجر لفلسطين عام 1905 بعد أن انخرط في بضعة نشاطات صهيونية، منها تأسيس شركة "جؤولاه" (الخلاص)، بهدف شراء الأراضي من الفلسطينيين، وذلك في إطار ما عرف صهيونياً باسم سياسة "تخليص الأراضي". وفي عام 1911، اختير رئيساً للجنة نقابة أحوزات بيت التي تولت مهمة بناء حي شمال يافا، ومن ثم أصبح أول محافظ لتل أبيب. شُقّ واحد من أهم شوارع المدينة باسمه "شارع ديزنجوف"، بل ظهرت في فترة ما في العبرية الحديثة كلمة جديدة، هي "لهيزدَنجيف"، أي أن “يدزنجف” المرء، أن يمشي في شارع "ديزنجوف" ويقضي الوقت بين مقاهيه. وفي موسوعة "شخصيات أرض إسرائيل"، كُتب أن مئير ديزنجوف هو مؤسس تل أبيب ومحافظها الأول، ومن بيته الشخصي أعلن "بن جوريون" قيام دولة إسرائيل 1948. ديزنجوف هو الأب الشهير والمعلن لتل أبيب.
ولكن نقابة أحوزات بيت نفسها، التي نبتت منها مدينة تل أبيب، لم تقم على أكتاف ديزنجوف، وإنما المعماري "عقيفا آرييه فايس"، الذي لم ينل حظاً مماثلاً من الشهرة. ففي عام 1906 وصل فايس إلى فلسطين وأقام مع عائلته في يافا، ومنذ أيامه الأولى في المدينة شارك في الاجتماعات مقترحاً تأسيس نقابة لشراء الأراضي من أهالي يافا لبناء حي يهودي. وفي العام نفسه أقام نقابة أحوزات بيت، وكانت تتكون من 66 عضواً، اختيرت منهن لجنة عمل تضم خمسة برئاسته.
وفي 1909 اجتمع أعضاء النقابة في الصحراء شمال يافا وقرروا مكان شارع المدينة الرئيسي، شارع هرتسل، مع أربعة شوارع صغيرة تقطعه، وقُسمت أراضي تل أبيب المستقبلية، بين 66 عائلة من أعضاء النقابة، عن طريق إجراء القرعة بينهم. يعد هذا الاجتماع، الذي عرف باسم "قرعة الساحات"، مشهداً مركزياً في تاريخ المدينة، وفي الصور الشهيرة للاجتماع يظهر فايس ولا يظهر مئير ديزنجوف، الذي لم ينضم للنقابة إلا بعد عامين، عندما عُين رئيساً للجنة أحوزات بيت في 1911، بعد استقالة فايس من النقابة، ليصبح ديزنجوف رئيس النقابة وأول محافظ لتل أبيب وليرتبط اسمه باسم المدينة للأبد.
انتصار الرأسمالية
تحدث الكثيرون عن خلاف بين ديزنجوف وفايس أدى في نهايته إلى أن يستقيل الأخير من لجنة نقابة أحوزات بيت، وتتردد آراء حول خلاف شخصي يتعلق بالرغبة في الحفاظ على المجد الذاتي، ولكن كتيباً ظهر أخيراً، للمؤرخة "رينا عنبر" بعنوان "مدينة المجتمع الجديد: ألتنويلاند في تل أبيب"، تدرس فيه شخصية فايس، ولماذا تم نسيانه واعتبر الجمهور الإسرائيلي أن المسؤول عن تأسيس المدينة هو "مئير ديزنجوف". بحسب الشاعر "روعي تشيكي إراد"، الذي قدم عرضاً للكتاب في هاآرتس، فإن الكتيب يعرض تفسيراً أيديولوجياً للاحتكاك: "وفق كلماتها فالنموذج الذي رآه فايس في مقابل ديزنجوف كان مدينة تؤسس بضمانات متبادلة بروح تشاركية، على طريقة ألتنويلاند هرتسل. أما ديزنجوف فقد رأى في تل أبيب مكاناً تصبح فيه البيوت ملكية شخصية لأصحابها، على الطريقة الرأسمالية، أي تكون مثل تل أبيب التي نعرفها، والتي بدأت فيها السمسرة على الأراضي في مرحلة مبكرة".
البنوك كانت حاضرة بقوة أيضاً في تأسيس تل أبيب، وانحازت لحل ديزنجوف الرأسمالي مقابل حل فايس الاشتراكي التعاوني: لمن ينكرون قوة البنوك اليوم، تشير عنبر إلى أن ديزنجوف كان الوسيط الذي عين البنك الذي مول إقامة المدينة، (بنك أنجلو فلسطين)، وكان تقريباً لا يدعم إلا من معه المال. مدير بنك أنجلو فلسطين، زلمان لافونتين، رفض اقتراح فايس بضرورة وجود ضمانات متبادلة وطالب بتسجيل المال في ملكيات خاصة، ومال ديزنجوف للبنك. تقول عنبر "عندما تُبنى مدينة على يد بنك، تكون دائماً معلقة بالبنك".
"اختلاف الآراء بين معسكر فايس ومعسكر ديزنجوف ولافونتين تزايد على قدر ما تزايدت سرعة البناء في الحي الجديد. كان فايس يعتقد أنه من الضروري أن يتمكن كل الأعضاء المسجلين [في النقابة] من حيازة بيوت، بمن فيهم من ليس معهم المال بشكل فوري. وفي المقابل قامت لجنة كانت تضم ديزنجوف، بدرس حالات الأعضاء واستبعاد من ليس لديهم الإمكانات منهم... قال وقتذاك فايس: "من سيقدر على البناء هو صاحب الأدوات فحسب. أما حقوق من ليس له أدوات فستضيع. أحجار الجدران تصرخ من هذا التمييز".
كان التوتر بين الصيغة الرأسمالية التي مثلها ديزنجوف والصيغة التشاركية التي مثلها فايس حاضراً إذن بقوة في تاريخ تأسيس تل أبيب، وانتصرت الصيغة الرأسمالية في النهاية، ولكن هذا لم يمنع فايس من الاستمرار في محاولة تحقيق حلمه الصهيوني بصيغته التشاركية. يضيف تشيكي إراد: "بعد أن انتقل لتل أبيب الجديدة، أصر فايس على حيازة أراض كبيرة لتباع بأسعار أرخص للمهاجرين، ولكن المشروع فشل. وبعد استقالته واصل حيازة الأراضي وبيعها بأسعار معقولة في مبادرة شخصية. كان فايس أبا للبنت الأولى المولودة في أحوزات بيت، واسمها أحوزبت (ونطق اسمها كإليزابيث). بعد ذلك بسنوات، مع صعود النازية، حاول فايس إقامة نقابة (أحوزات بيت) للمرة الثانية، وفق تصوره هذه المرة، في الصحراء بجانب رفح، ولكنه لم يحظ برد ومات بعد أفعال كثيرة في 1947".
هكذا كان فايس الأب الحقيقي لتل أبيب، الأيديولوجي المتحمس، الذي سمى ابناً له هرتسل وابنة أخرى "أحوزبِث"، تخفيفاً لأحوزات بيت، ولم يتمكن من مجاراة التغيرات التجارية والتنافسات الاقتصادية في السمسرة وشراء الأراضي من الفلسطينيين، وكان مصيره أن نساه أبناؤه.
هكذا، وعلى نقيض تاريخ الكيبوتس، الذي بدأ تعاونياً ولم يتحول إلى الرأسمالية إلا متأخراً جداً، كان تاريخ تل أبيب من سنواتها الأولى، تاريخاً من انتصار الرأسمالية وإعطاء الملكية الخاصة الأولوية على أية حسابات تعاونية. تشير المؤرخة "راحيل هارت" في مقال بعنوان "الصراع على الأرض حول يافا وتل أبيب في بدايته" إلى هذا بقولها: "لقد تأسست (تل أبيب) بواسطة تجار وأصحاب أراض ومهنيين من يافا، هؤلاء الناس بالتحديد من حاربهم رجال حركة العمال الصهيونية لأجل تلقي عمل وأجر أفضل في المجال الزراعي".
هرتسل، يافا، تل أبيب
في مقالها المذكور سابقاً، تتحدث "راحيل هارت" عن أحياء تل أبيب التي نبتت "في الرمال"، وعلاقتها بيافا: "أحياء أحوزات بيت، نحالات بنيامين، وحفراه حاداشاه توحدت بعد تأسيسها بفترة قصيرة، في نوع من الاحتجاج على يافا. وأحياء أخرى أقيمت الواحدة تلو الأخرى، أعطت سكانها الإحساس بمدينة عبرية تنمو على رمال شاطئ البحر، وتدير شؤونها بشكل مستقل عن يافا. كانت علاقة تل أبيب بيافا تركيبة خاصة من الوراثة والاحتكار، المحو والإحساس بالذنب ووضع الأقنعة، منذ ولادة نفيه تسيدك من رحم عروس البحر، لم تتوقف تل أبيب عن الهروب من يافا أو الارتباط بها. وتصرفت بالضبط مثل مخترعها وأبيها الروحاني تيودور هرتسل الذي كان مصمماً على الهروب من يافا، وبدلاً من أن يبقى يومين في المدينة في انتظار سفينته العظيمة التي ستأخذه لمبتغاه، فضّل الصعود إلى سفينة رديئة أخذته للاتجاه المعاكس".
تعود روح هرتسل لتحلق على المدينة، بدءاً من اسم شارعها الرئيسي، مروراً باسم روايته، انتهاءً برؤيته هو نفسه ليافا وللسكان المحليين.
في العام نفسه الذي شرع فيه هرتسل في كتابة روايته، 1898، زار مدينة يافا لساعات، وكتب سطراً واحداً عنها في مذكراته: "وهكذا أصبحنا في يافا، مرة ثانية الفقر والمعاناة والحرارة بألوان مبهجة، هرج ومرج في الشوارع ولا عربات يمكن استئجارها".
وفي روايته "ألتنويلاند"، التي صدّرها هرتسل بعبارة "إن أردتم، فهذه ليست أسطورة"، تحظى يافا بعدة أسطر أخرى: "كل شيء فيها مهمل لدرجة الرثاء، الصعود للشاطئ في الميناء البائس كان أمراً مزعجاً - الأزقة كانت مشبعة بروائح نتنة وقذرة ومهملة، في كل الأماكن سادت الأزمات الشرقية المبهرجة... حيثما تتجه لن ترى إلا الفقر على طريقة بلدان الشرق. أتراك فقراء، عرب قذرون ويهود خائفون ومتبطلون بكل الأماكن... الجميع مضطهدون، فقراء وبلا أمل. رائحة عفن غريبة، تشبه رائحة القبور الثقيلة على النفس".
في روايته، لا يخفي هرتسل اشمئزازه من يافا، ولكن أيضاً، لأنه كان استعمارياً فخوراً بنفسه، كما يكتب عنه المؤرخ "إيلان بابيه" في مقال نشر في مجلة "ميتاعام"، فنادراً جداً ما أشار إلى مصير السكان المحليين في فلسطين مع قيام الدولة اليهودية التي حلم بها. يقول بابيه: "على طول ألتنويلاند كلها، والمكتوبة في بداية قرن معاد للاستعمار، نبحث بلا جدوى عن أي تلميح لمصير السكان المحليين في بلد المعجزات".
سترتبط هذه النظرة دائماً بيافا في أوائل القرن، لا أهمية لمصير السكان المحليين، شكوى مريرة من القذارة، مع الرغبة في إقامة حي جديد خارجها. يشير المؤرخ "توم سيجف" إلى أن "تل أبيب تأسست على يد يهود قرفوا من حياتهم مع العرب. لم يكن هذا فعلاً سياسياً ولا حدثاً لأسباب أمنية، أراد مؤسسو تل أبيب مستوى حياة أوروبياً".
فايس نفسه كتب عن الحي الجديد الذي يعتزم إقامته مشيراً للرغبة في الإنعزال عن سكان المكان: "قبل أي شيء سيكون هذا الحي حياً يهودياً، وبين شعبي أسكن (من التوراة)، ولن تعود لنا حاجة لإرسال أطفالنا إلى قلب الحي العربي". كما قيل في بروتوكول اللجنة المؤقتة للحي: "المدينة العبرية الأولى التي يسكن فيها العبريون بنسبة 100% ويحافظون فيها على النظافة والطهارة، ولا نمشي في طريق الأغيار".
في تاريخ تل أبيب إذن تتجاور كل عناصر الصهيونية: شراء الأراضي، الاشمئزاز من السكان المحليين وتجاهل مصيرهم في أفضل الأحوال، انتصار الصيغة الرأسمالية على الصيغة التعاونية، مشهد القتل والذبح في 1948. في مقال له بعنوان "تخريب المدن الفلسطينية في ربيع 1948" يشير المؤرخ "إيلان بابيه" إلى أنه في 13 مايو (قبل إعلان الدولة بيومين) هاجم خمسة آلاف من محاربي الإيتسل والهاجاناه يافا، في مقابل ألف وخمسمائة محارب عربي: "قاوم المدافعون الحصار لثلاثة أسابيع. عندما سقطت المدينة، تم إخلاؤها من جميع سكانها، وهم حوالي خمسين ألفاً، بوساطة بريطانية... هنا أيضاً، وفي الميناء الصغير، أطلق المحتلون النار على الجماهير التي يتم إخلاء المدينة منهم، وهنا أيضاً سقط هاربون في البحر لدى محاولتهم الصعود إلى سفن الصيد الصغيرة التي كان من المفترض أن تنقلهم إلى غزة".
يضيف بابيه: "مصير لا يقل قسوة انتظر المئات الذين بقوا في الخلف. فُرض حظر التجوال كل ليلة بين الخامسة بعد الظهر حتى صباح اليوم التالي، وأُطلقت النار على كل من كان في الشارع. تظهر يافا مراراً وتكراراً في تقارير الصليب الأحمر كنموذج على الانتهاك الحاد لحقوق الإنسان. بعد احتلالها بشهرين، اكتشف ممثلو المنظمة كومة من الجثث. طلب أعضاء المنظمة تفسيراً من جيش الدفاع الإسرائيلي. اعترف الحاكم العسكري في يافا في حوار مع مار جوي، من الصليب الأحمر، بأن هؤلاء كانوا على ما يبدو ضحايا أطلق جنوده النار عليهم".
هكذا، بعد إخلاء يافا من عربها وإكمال احتلال المدينة العربية، استطاعت تل أبيب أخيراً التمدد جنوباً. في عام 1949 توحدت يافا مع تل أبيب في محافظة واحدة باسم "تل أبيب – يافا"، على أن يسبق اسم تل أبيب اسم يافا. بقيت بعض أحياء يافا بأسمائها العربية، مثل يافا القديمة وعجمي والمنشية، وأحياء أخرى أخذت أسماء عبرية، مثل شارع تسهلون وشارع جفعات علياه، أي تل الهجرة، وجفعات هرتسل، أي تل هرتسل.
---------------
المقالة منقوله عن موقع رصيف 22