يدّعي الصّندوق القوميّ اليهوديّ أنّ مارتن لوثر كينـچ تبرّع من أجل إقامة 'پارك كندا'، المتنزّه الإسرائيليّ الرّابض على أنقاض قرى فلسطينيّة مهجّرة في منطقة اللطرون. فقد أُنشئ هذا المتنزّه بفضل تبرعات جمعها الصّندوق القوميّ اليهوديّ (كيرن كييمت) من الجاليّة اليهوديّة وأصدقاء له في كندا، ومن هنا جاء اسمه. إلا أنّ قائمة الأسماء المنقوشة على حائط المتبرعين المنتصب بين أطلال قرية عمواس المهجّرة منذ حزيران (يونيو) 1967 تشمل أيضًا أسماء متبرعين ليسوا كنديّين وليسوا يهودًا. أبرز هذه الأسماء وأكثرها مفاجأة هو اسم المناضل المعروف من أجل حقوق الإنسان مارتن لوثر كينـچ.
وُلد مارتن لوثر كينـچ في 15 كانون الثّاني (يناير) 1929 واغتيل في 4 نيسان (أبريل) 1968. تمّ خلال شهر كانون ثانٍ (يناير) الماضي إحياء الذّكرى السّادسة والثّمانين لمولده التي أصبحت يومًا وطنيًّا في الولايات المتحدة الأمريكيّة. كان مارتن لوثر كينـچ مناضلًا عنيدًا مناهضًا للتمييز العنصريّ ضد السّود في الولايات المتحدة، وأصبح رمزًا عالميًّا ومصدر إلهام للشعوب المقهورة وحركات التّحرر في جميع أنحاء العالم. حاز على جائزة نوبل للسلام وعمره 35 سنة. فكيف تتماشى مبادئ وأفكار وأخلاق مارتن لوثر كينـچ مع تبرّعٍ لبناء متنزه استعماريّ على أرض لاجئين طردوا من بلدهم بالقوة؟
محفور على اللافتة اسم مارثن لوثر كينج
'پارك كندا' الذي تغيّر اسمه إلى 'پارك أيَلون- كندا' أُنشئ عام 1972 على أطلال وأراضي أربع قرًى فلسطينيّة في منطقة اللطرون. قامت دولة إسرائيل بعد احتلالها هذه القرى بطرد كل سكانها، وتدمير منازلهم ومنع عودتهم إلى أرضهم. وما زالت تمنع عودتهم حتى اليوم. قرية دير أيوب احتلّت عام 1948، بينما القرى الثّلاث الأخرى وهي عمواس ويالو وبيت نوبا فقد تمّ احتلالها خلال حرب الأيام السّتة في 6 حزيران 1967. وعليه، فإنّ هذه المنطقة تُعتبر على الصّعيد الرسميّ جزءًا من الضفة الغربيّة، ولكنها على الصّعيد العمليّ تبدو وكأنها ضُمّت إلى دولة إسرائيل. فبالإضافة إلى المتنزّه، تنشط في منطقة اللطرون المحتلة عام 1967 مشاريع ومنشآت إسرائيليّة أخرى، فعلى سبيل المثال يمرّ في أرض عمواس مقطع من الطّريق السّريع رقم 1، الطّريق الواصل بين القدس وتل-أبيب، أهم الشّوارع في هذه الدولة. ولن يجد السّائقون ولا المتنزّهون أيّة لافتة تخبرهم أنهم تجاوزوا 'الخط الأخضر' ودخلوا الضّفة. كذلك يمرّ في أرض يالو مقطع من خط سكة الحديد الجديدة والتي ما زالت قيد الإنشاء، وبُنيت مستوطنة مڤـو حورون عام 1970 على أرض بيت نوبا.
تطهير عرقيّ
الجيش الإسرائيليّ، بعد احتلال المنطقة وبدون معارك تُذكر، أمرَ المواطنين في القرى الثّلاث، وعددهم يراوح 6000 نسمة، بالخروج فورًا من بيوتهم والتجمّع في السّاحات المركزيّة، ومن هناك أرسلهم، إمّا سيرًا على الأقدام وإمّا في سيّارات، بعضهم على حماره وبعضهم داخل شاحنات، باتجاه رام الله التي تبعد عنهم حوالي 30 كيلومترًا. في مقابلة أجريتها مع أحد اللاجئين قال لي إنه يتذكر صراخ الجنود الإسرائيليّين تجاه الأهالي بالعربيّة 'يالله عَ رام الله، يالله عَ حسين'، ملك الأردن. كانت تلك عملية تطهير عرقيّ مخططة ومنظّمة. لم يتخذ الإسرائيليّون قرارهم في ظروف ضاغطة أو تحت قصف أو خلال معارك، ولم يستغلّوا نزوحًا جماعيًّا للمواطنين، لأنه لم يكن، إنّما قاموا بحملة تهجير موزونة وواضحة المعالم. حتى عندما لجأ حوالي 400 شخص من عمواس، من رجال ونساء وأطفال وشيوخ، إلى دير اللطرون المجاور لقريتهم واحتموا فيه، حضر ضباط إسرائيليّون بعد عدة أيام إلى الدّير وأرغموا الرّهبان على تسليمهم أهالي عمواس المختبئين، ثم أدخلوهم إلى حافلات وشاحنات ونفوهم إلى رام الله.
مع انتهاء الحرب بعد ستة أيام بانتصار إسرائيليّ كاسح، سمع لاجئو عمواس ويالو وبيت نوبا من الإذاعة ومن مكبّر الصوت في سيارة عسكريّة إسرائيليّة إعلانًا يفيد بأنّ اللاجئين يمكنهم العودة إلى قراهم، فشرعوا بالمسير باتجاه الديار النّاظرة عودة أصحابها. إلّا أنّ مفاجأة صاعقة كانت بانتظارهم عندما قطع الجيش الإسرائيليّ عليهم الطّريق وأمرهم بالرجوع من حيث أتوا معلنًا لهم هذه المرة أنّهم ممنوعون من دخول قراهم. في تلك الساعات المشحونة بالصراخ والبكاء والاحتجاج والرّجاء، كانت الجرافات الإسرائيليّة تدمّر البيوت وتمسح القرى الثّلاث من على وجه الأرض.
لاجئون من قرى اللطرون
في بداية السّبعينات منحت دولة إسرائيل 12 ألف دونم من أراضي اللطرون إلى الصّندوق القوميّ اليهوديّ (كيرن كييمت) الذي بدورِه تخلّص من ركام المنازل أو أخفاها، وزرع مكانها أشجار السّرو والصّنوبر، واستولى على أشجار زيتون الفلسطينيّين المهجّرين، وأنشأ بينها مناطق استجمام للإسرائيليّين، وهيّأ مَرافق للتّسلية وإمتاع المستجمّين، حتى أنّ بعض هذه المرافق أنشئ على مقربة من المقابر الفلسطينيّة المهدّمة والمهملة. هذه ممارسات معروفة استعملت ضد مئات القرى الفلسطينيّة التي احتلت عام 1948 وأُفرغت من سكانها ودُمرت على يد دولة إسرائيل. إنّ أحراش الصّندوق القوميّ اليهوديّ الاستعماريّة تشكّل أداةً لإخفاء آثار الجريمة وطمس أطلال البلدان الفلسطينيّة، كما أن لافتات الصّندوق القوميّ اليهوديّ توظّف لتشكيل وعيٍ خالٍ من ذكر التّاريخ الفلسطينيّ.
الاسم الجديد للمنتزّه
الاسم
قبل عدة سنوات غيّرت السّلطات الاسم من 'پارك كندا' إلى 'پارك أيَلون'، وهو اسم توراتيّ يُنسبَه الإسرائيليّون إلى سهل عمواس. هذا التبديل جاء نتيجةً لحملات التّوعية والاحتجاج التي قام بها لاجئو قرى اللطرون ومنظّمات حقوقيّة في أنحاء العالم للتعريف بهذا المتنزّه الاستعماريّ وكشف حقيقته. فسبّب ذلك حرجًا سياسيًّا لحكومة كندا بعد أن تبين لها أن اسمها مربوط بمشروع على أرض محتلّة وفي ذلك مخالفة للقانون الدوليّ والقانون الكنديّ نفسه، كما أن عددًا من المتبرعين تفاجأوا من إدراج أسمائهم واسم كندا في هذا المتنزّه بالذات فاحتجوا عند إدارة ص.ق.ي وطالبوا بتصحيح الأمر. إلا أنّ محاولة تغيير الاسم أدّى إلى بلبلة في الخرائط الإسرائيليّة لوجود معالم أخرى في الدّولة تسمّى أيَلون فقرروا في نهاية الأمر إدماج الاسمين ليُصبح ' پارك أيَلون- كندا'. ووصلت البلبة أطنابها بين اللافتات حيث تتواجد في أنحاء الموقع حاليًّا لافتات من ثلاثة أنواع مع أسماء مختلفة. هذه المعلومة تشير إلى أن إدارة المتنزّه أقحمت أسماء هؤلاء في هذا المشروع دون علمهم، ولربما هذا هو الحال مع مارتن لوثر كينـچ. ومع ذلك، حتى لو أنه لم يتبرع لهذا المتنزّه تحديدًا، وإنما تبرع - أو أن شخصًا ما تبرع باسمه- للصندوق القوميّ اليهوديّ بشكلٍ عام، يبقى التّساؤل والاستهجان حاضرَين حول علاقته بهذه المؤسّسة الاستعماريّة.
قرية عمواس، 1958، قبل التّدمير
يقطن حاليًّا لاجئو عمواس ويالو وبيت نوبا في مناطق متفرقة في فلسطين والأردن وأنحاء العالم. لكل قرية جمعيّة تمثّلها وتواصل النّضال من أجل العودة. في منتصف شهر كانون ثانٍ (يناير)، بالتزامن تقريبًا مع الاحتفالات بعيد مولد مارتن لوثر كينـچ، حلّ ممثلون عن جمعيّة لاجئي عمواس ضيوفًا عند منظمة إماوس الفرنسيّة Emmäus وهو الاسم الإنجيليّ لعمواس، بمناسبة الذّكرى العاشرة لوفاة الأب پيير مؤسّس المنظمة، وخلال إحياء ذكراه عُرض فيلم 'عمواس- استعادة الذاكرة' للمخرجة الفلسطينيّة ديمة أبو غوش، ابنة عمواس، وأُطلق اسم عمواس- فلسطين Emmäus en Palestine على ساحة في قرية تعاونيّة في مدينة لسكار- پو الفرنسيّة بحضور رئيس جمعية عمواس أحمد أبو غوش. هذه الخطوة، على تواضعها، تعتبر بالنسبة للاجئين إنجازًا رمزيًّا ومعنويًّا لنضالهم.
على الجانب الآخر، يشعر لاجئو عمواس بالصدمة وخيبة الأمل من كون اسم مارتن لوثر كينـچ، المناضل المعروف من أجل حقوق الإنسان، محفورًا بين حطام منازلهم، ويزيّن قائمة المتبرعين والدّاعمين لإحدى المؤسّسات الأكثر عنصريّة في دولة الاحتلال، والتي تلعب دورًا مركزيًّا في الاستيلاء على أملاكهم، وترسيخ لجوئهم ومنع عودتهم. الصّندوق القوميّ اليهوديّ الذي يتفاخر، بطبيعة الحال، أن يكون مارتن لوثر كينـچ من بين المتبرعين له، يجعل منه عمليًّا، سواء علم أم لم يعلم، شريكًا في الجريمة.
------------------------------
*عمر الغباري/ مؤسسة ذاكرات: يعمل في مجال التربية السياسيّة وإرشاد المجموعات، وتوثيق النكبة والعودة.
نشر المقال في موقع فسحه