في نهاية عام 2012، سافرنا، مجموعةٌ مكوّنةٌ من 20 ناشطةٍ وناشط، إلى ندوةٍ دراسيّةٍ في جنوب إفريقيا كانت "ذاكرات" قد شاركت فيها. وفي أحد الأيّام، بينما كنّا في جولة في روبن آيلاند - وهي جزيرة استُخدمت في أيّام الأبارتهايد كسجن "أمني" (بمعنى: سجن مخصص لحبس السّجناء السياسيّين)، وصارت اليوم متحفًا لإحياء ذكرى جرائم الأبارتهايد، حيث يعمل النّزلاء السّابقون في هذا السّجن كمرشدين سياحيين. ظلّ السّجن على حاله. لقد مشينا في ممرّات السّجن، وفي ساحاته، وزرنا زنازينه، وأخبرنا المرشد عن تجاربه هنالك، كأسير، وعن النّضال ضدّ الأبارتهايد، وعن أهميّة تخليد ذكرى تلك المرحلة اليوم بهذه الصورة>
كان نيلسون مانديلّا مسجونًا في روبن آيلاند لمدة 18 عامًا (من أصل 27 عامًا هي مجموع سنوات حبسه حتّى إسقاط نظام الأبارتهايد). تمّ تسريحه الأخير من السّجن سنة 1990، وبعد مرور أربعة سنوات فقط، تمّ انتخابه في انتخابات ديمقراطية ليصير رئيسًا للبلاد. وقد صار نزيلان آخران سابقان، من نزلاء روبن آيلاند، رئيسين للبلد بعد مانديلّا.
خلال الجولة، أدركت بأن داود (وهو اسم مستعار)، وأحد الفلسطينيّين الذين كانوا معنا في الجولة، قد كان معتقلًا في سجن إسرائيليّ. وقد قمت، بواسطة الكاميرا التي حملتها، بإجراء مقابلة معه حول الأمر حينما كنّا داخل ذلك السّجن، وهكذا، صار للجولة في السّجن وجه جديد. كانت الجناية الأمنيّة الـ "خطيرة" التي اعتقل بسببها ذلك الرجل في السّجن، تتمثّل في رفع العلم الفلسطينيّ، وهو أمرٌ كان محظورًا وفقًا للقانون الإسرائيليّ إلى أن تمّ توقيع اتفاقيات أوسلو.
كإسرائيليّة، كانت تجربة التحدّث إلى فلسطينيّ هو سجينٌ سياسيّ سابقٌ عن فترة حبسه في السّجن، في الوقت الذي كنّا فيه بين جدران سجن سياسيّ سابق تحوّل لاحقًا إلى متحف لتخليد الذكرى، وفي ذات الوقت الذي يقوم فيه ناشط جنوب إفريقي وسجين سابق هو الآخر، بإرشاد جولتنا تلك، تجربة مفصليّة بالنسبة إلي. فجأة أفلحت تمامًا في الإحساس بالطريقة التي كنت أحتفظ بها في خياليّ فقط. لقد بدت الطريق المؤدية إلى الخروج من واقع الاحتلال والكولونياليّة والقمع قابلة للتحقّق، كانت منطقيّة وممكنة الوقوع. إليكم، لقد حصل هذا بالذات هنا.
هل بإمكاننا تخيّل سجن عوفر وقد تحوّل إلى "متحف سجن عوفر"؟
هل بإمكاني تخيّل داوود وهو يقود جولة لمجموعة من الإسرائيليّات والفلسطينيّات في سجن عوفر السابق، ويتحدث في الجولة عن تجاربه في السّجن، ويعيد، بصوته، رواية قصة الاحتلال وقصة انتهاء الاحتلال وإنصاف المظالم؟
يمكن أن يبدو الأمر خيالًا غير ممكن التحقّق بالمطلق، أو بعيدًا عن الحال الذي نعيشه اليوم. ولكنّ: لماذا نستبعد إمكانيّة تخيّل الأمر بهذه السهولة؟
كإسرائيليّات- يهوديات، وأيضًا كناشطاتٍ يساريات، نظل عالقات في تصور مفاده أن "الحال باقِ على ما هو عليه". هكذا تربينا وهكذا تم تعويدنا على التّفكير، بحيث تنتج صورة الماضي صورة المستقبل بذات الطريقة.
بل وأكثر: إننا حينما نخرج لمكافحة الاحتلال، والقمع، وإسكات الرواية، والفصل الحاصل بيننا، والتحريض، فإننا لا نخرج بسهولة من أجل الكفاح لصالح تحقّق صورة المستقبل الذي نرغب به. يبدو الأمر، عمومًا، أقل إلحاحًا، أو أننا نكون مفتقرات تمامًا للموارد التي يمكننا تخصيصها لتحقّق هذا الغرض، أو أن الأمر يبدو لنا، نحن بأنفسنا، منفصلًا عن الواقع.
لطالما قيل لي، في عدد لا متناهٍ من المرات، حينما كنت أخبر الناس عن المجموعات التي شاركت في إطارها في التّفكير بعودة اللاجئين الفلسطينيّين- وهي مجموعات التأمنا فيها لكي نتخيّل تفاصيل العودة، والشروع في تكوين الأدوات، واللغة، والحلول الميدانية، التي يمكن من خلالها تحقيق العودة، بأنّني منفصلة عن الواقع.
حسنًا، بقدر ما يكون الواقع كناية عن واقع منطوٍ على الاضطهاد، والتفوق العنصريّ، والتمييز الممؤسس، والتحكم العسكري بالسكان المدنيين، فإنني أختار بالفعل أن أكون منفصلة عن ذلك الواقع في خياليّ. إذ أنني لا أكون، في خياليّ، مكبّبة بالواقع الكولونياليّ والسيطرة على شعب آخر. وأنا أختار، في خياليّ، خلق بنية تحتيّة من أجل واقع آخر. واقع تتحقّق فيه العدالة لأولئك الذين، واللواتي، يعيشون المظالم. واقعًا يتمثّل إنصاف الفلسطينيّين والفلسطينيّات المقتلعين والمقتلعات فيه، من خلال عودتهم وعودتهنّ، واقعٌ يكون بإمكان الجميع فيه أن يعيشوا هنا سويًا، في ظل المساواة، والأمان، لا وبل سأجرؤ على القول: بسعادة.
خيالنا لديه قوّة. إنّ تخيّل واقع مختلف، معًا، هو قوّة سياسيّة.
لقد تم اعتبار الناشطات والناشطين الذين عملوا من أجل إنهاء الأبارتهايد، في ذلك الزمن، واهمين ومنفصلين عن الواقع، أيضًا.
ومن المضحك القول أيضًا بأن هرتسل كان يُنظر إليه على هذا النحو.
ليس الخيال السياسي عملًا حالمًا، وهو ليس نشاطًا يقوم به إنسان واحد.
إن ممارسة التخيّل السياسي هو عمل من أعمال المقاومة النشطة للقمع. إننا نحاول، من خلاله، طمس وعينا، بحيث نعتقد أنّه من المستحيل أن يحصل أمر سوى ما نسعى إليه.
لكنّ هذا، بالطبع، كذب مقصود.
التخيّل السياسي هو نشاط جمعيّ له أثر حقيقي على الواقع.
تجتمع مجموعة من اللاجئات واللاجئين الداخليين (المهجّرين) من الفلسطينيين والفلسطينيات منذ بضعة عقود معًا، وتتخيّل عودتها، وتخلق خرائط تعيد من جديد بناء القرية المهدومة، والنماذج، وإنتاج الأفلام، والخرائط الهيكلية، والنصوص. بل إنهنّ/م قد عادوا في بعض الحالات عمليًا إلى بلدتهم. (مسكة، إقرث، العراقيب، وغيرها).
لقد شاء حسن حظّي أن أكون جزءًا من المجموعات التي شاركت ذاكرات فيها، وقد كان هنالك مكانٌ لليهوديات واليهود في عمليّة التّفكير والتخيّل هذه. أشارك في تخيّل العودة لأنني أريد الدفع قدمًا بإتّجاه العودة، بوصفها إنصافًا للمظلمة المتمثّلة في طرد الفلسطينيين من هذه البلاد، وأشارك في الأمر أيضًا لأنني أريد أن أكون في التخطيط للحياة التي ستكون بعد تحقّق العودة، أن أكون شريكة في التخطيط مجددًا للنّحو الذي ستبدو حياتنا هنا عليه. حينما تملك رؤيا واضحة، فسيكون من الأسهل بالنسبة إليك غذّ الخطى نحو الواقع المتخيّل، حتّى لو كانت الطريق إليه غير ممهدة.
لقد كتبنا العديد من النصوص في إطار المجموعات التي شاركتُ فيها، ويمكنكم العثور عليها في موقع ذاكرات الجديد: على سبيل المثال: وثيقة يافا ووثيقة كيب تاون. هذه النصوص، في نظري، تعدّ عملًا ناشطيًّا لأنّها تشكّل بداية تركيب صندوق أدوات يمكننا استخدامه في اليوم اللاحق، اليوم الذي نقرر فيه التوقف عن الاحتلال ودوس الآخرين، وأن نتحمل المسؤوليّة بدلًا من ذلك، وأن ننصف الآخرين، وأن نصحح المظالم التي تسببنا فيها، وأن نتوقف عن ارتكاب المزيد منها، وبدلًا من ذلك كله، أن نكون شريكات وشركاء في عودة الفلسطينيين إلى وطنهم.
وفي غضون ذلك، نقوم بتدريب خيالنا وأدمغتنا على التّفكير بصورة مغايرة، على رؤية الأمور بصورة مختلفة، على العيش في واقع مختلف. بمعنى: أننا نخلق أيضًا بنية تحتيّة عاطفيّة وعقليّة لكيفيّة العيش في الواقع المأمول.
الخيال السياسي هو سيرورة. إذ لم تُكتب هذه النصوص في يوم واحد. لقد كُتبت بعد سيرورات طويلة جدًّا، مررنا فيها بعمليات بحثيّة معمقة حول الموضوع، وحول السيرورات العاطفيّة وتفكيك كل ما فكّرنا به حتّى الآن، ثم إعادة تركيبه مجددًا. لهذا السبب، تعدّ المثابرة شديدة الأهمية. يبدو الأمر كما لو كان تدريبًا لعضلة، كما لو كان برنامج تمارين بدنية. لا نستسلم في كل مرة نواجه فيها المصاعب، ونواصل رغم هذه المصاعب لكي نتمكّن من تحقيق الهدف (وكما هو حال تمارين اللياقة البدنية، من المهم أيضًا أن نرتاح أحيانا).
في تلك الجولة في جنوب إفريقيا، التقينا بالأسقف الرّاحل ديزموند توتو، من الصعب وصف مدى الإثارة والحماسة التي اعترتنا لدى لقاء هذا الرّجل. من ضمن ما قاله آنذاك، جملة ظلّت محفورة في قلبي، وقد صارت منذ ذلك الحين تمثّل مرتكزًا في كل مساعيّ في سياق الخيال السياسي، الأمل والمثابرة من أجل تحقيق الهدف، في ظل ظروف واقعيّة شديدة الصعوبة:
"لا بدّ وأنّكم تشعرون بأنّكم تنطحون حائطًا برؤوسكم، ولكن هذا غير صحيح. نحن أيضًا شعرنا على هذا النحو. لقد ناضلنا ضدّ الأبارتهايد وكان يبدو أن أمرًا لن يتغير. لكن هذا غير صحيح. ذات يوم سيتحقّق ذلك. ذات يوم سيسقط الحائط. ذات يوم سيحصل هذا عندكم كما حصل عندنا. سيستيقظ الناس ويقولون: كيف كنّا حمقى إلى هذا الحد، طيلة كل ذلك الوقت؟ سيقولون: انظروا كم من المال بذّرنا على إقامة سور الفصل، وكم من المال علينا أن ننفق الآن لكي نهدمه".
نخب إسقاط جميع الأسوار، بما فيها الأسوار التي تقف في وجه خيالنا
موران برير، ناشطة فيديو وميسّرة مجموعات. وهي رئيسة الهيئة الإداريّة في ذاكرات.